- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/weekly -

وفاء لذكرى الكاتبة والاديبة الكبيرة رضوى عاشور “تمرين الأصابع” في ميدان التحرير

نص: رضوى عاشور

في مساء السادس والعشرين من ايار/مايو (وهو بالمناسبة يوم مولدي) ذهبنا إلى ميدان التحرير. حسناً، أخّرنا المرض خمسة أشهر. سوف يبدو ممجوجاً لو توقفت الآن وقدمت تعبيراً بلاغياً أو خطبة عصماء عن مشاعري، لسبب بسيط لا علاقة له بذائقتي الأدبية، هو أنني لم آت الميدان سائحة، ولا زرته للفرجة ولا تلبية لحنين، أو لكي أقول لنفسي حصل خير يا رضوى ها أنتِ في نهاية المطاف وصلتِ الميدان الذي كان يُفــــترض أن تكــوني فيه ولم تتمكني.
كان شارع طلعت الذي نسلكه من بيتنا إلى ميدان التحرير، هو شارع طلعت حرب المألوف بمحلاته الكثيرة على الجانبين، لا نأتيه من جهة جروبي في ميدان طلعت حرب، أو مكتبة مدبولي أو مكتبة الشروق التي كان اسمها قديماً مكتبة هاشيت، ولا نمرّ بمقهى ريش، بل ندخله من شارع هدى شعراوي، فنمرّ بمطعم فلفلة ومحل عصير جنة الفواكه ومكتب مصر للطيران، نعبر الشارع ونتجاوز «بنترومولي» للأثاث، و»كريستال» للمخبوزات، ونرى في الجانب الآخر من الشارع نادي محمد علي ثم محل الزهور، ثم مقرّ الحزب الناصري ثم محلات عمر أفندي عند نهاية الشارع. طريق مزدحم كالعادة بمارّة كثيرين، وسيارات تتحرك في اتجاه واحد.
إذن الشارع هو الشارع بثوابته وناسه. ما الذي جدّ؟ أعدّ على أصابعي، أبدأ بالإبهام: جدّ أن هناك مارّة مثلي يقصدون الميدان لا ليركبوا أتوبيس أو ينزلوا إلى محطة المترو، أو يشتروا هذا الشيء أو ذاك، كما اعتادت بعض الأسر والشباب والصبايا ليستمتعوا بالنسمة الصيفية. بل يقصدون الميدان لأنه الميدان. وسيقصدونه غداً الجمعة ليرفعوا الرايات وأصواتهم ويطالبوا. أثنّي السبابة: وجدّ هؤلاء الباعة على مداخله: لا يبيعون جوارب وملابس داخلية وبعض العاديات، بل رايات كبيرة وصغيرة، أعلام مصر وفلسطين وتونس، وملصقات تحمل كلمة 25 يناير، أو صوراً لوجوه بعض رموز النظام السابق مشطوب عليها أو يتبعها تعليق ساخر، أو «تي شيرتات» مطبوعاً عليها العلم أو شعار من شعارات الثورة. ثم أثلّث بالوسطى: جدّت هذه اللافتات الكبيرة المعلقة في الميدان، ورسوم الغرافيتي والشعارات على حوائط المباني المحيطة به.
أي سخف هذا يا رضوى! أنتبه أن قبضتيّ بأصابعي العشر انغلقتا فجأة بقوة، كأنما تمردت الأصابع على الحسبة العقيمة. قلت: جدّ في الميدان ما شربته أرضه من دم الشهداء. أو بما لم تشربه تماماً بعد، فبقي محبوساً في مكان ما بين سطح الأرض وباطنها، ينتظر أن يسري فيه ويشكّل تربته. أتذكّر شهادة ناشط من شباب 6 إبريل، كان من منظمي مظاهرات اليوم الأول. تحدث الشاب عن رجل ملتحٍ مسنّ، تشارك معه البطانية في إحدى ليالي الاعتصام بالميدان. حكى له الرجل أنه ذهب إلى الحجّ العام السابق وأخبره أنه مندهش من أن تأثره بوجوده في التحرير، أشد من تأثره وهو في الحرم المكي. قال له الرجل انه من غير الصحيح أن كل من يدخلون الميدان يتعرضون للتفتيش (كان الثوار يقفون عند مداخل الميدان لحمايته من البلطجية وعملاء أمن الدولة الذين قد يدخلون بأسلحة أو سكاكين). فلما أكد له الشاب أنهم يخضعون لتفتيش دقيق، قال له الملتحي عن الشهداء يأتون للميدان يومياً ويجلسون فيه. لا أحد يراهم أو يفتشهم، وأنهم يريدون لنا أن نبقى في الميدان، ولو تركناه يصبح قفراً، ويتحول إلى مكان ملعون.
تذكرت كلام الناشط، ولوهلة بدا لي وأنا أدور بعينيّ في المكان، أني سألمح أطيافهم تروح وتغدو بتلقائية ويسر كما يفعل الناس في بيوتهم أو في الشوارع التي نشأوا فيها (…)
أعرف في قرارة نفسي أن الثورة والميدان والشهداء والمصابين والبطولة وكل المعاني الكبيرة، هي في واقع الحال حصيلة جمع ما لا يُحصى من هذه اللحظات. وأن على الكاتب أن يلتقط خيوطها ويغزلها ويضفرها ويقدم في نهاية المطاف النسجية الكبيرة التي تشبه في حجمها وجلالها المعنى الكبير المكوَّن، كما أسلفت، من منمنماتها الصغيرة. فتُذكّر أن وراء المعنى الكبير لحظات بسيطة لبشر بسطاء لا بالمعنى الممجوج للكلمة (معنى فقراء أو غير مسيسين)، بل بشر مثلي ومثلك، يحتاجون ساعة نوم، وشربة ماء ولقمة تسدّ الجوع، وكلمة طيبة تنمّ عن الاحترام، وهو ما نسميه بلغة السياسة: الكرامة.
«أثقل من رضوى:
مقاطع من سيرة ذاتية»، 2013
المسكونة بالتاريخ
باستثناء روايتين، هما «حَجَر دافىء»، 1985، و»خديجة وسوسن»، 1987؛ فإنّ جميع أعمال الروائية المصرية الراحلة رضوى عاشور (1946ـ2014) مثقلة بالتاريخ، القديم والحديث والمعاصر، في مصر بصفة أولى بالطبع، ولكن أيضاً في فلسطين؛ التي صارت وطناً ثانياً للكاتبة، لأسباب شتى، ولا تقتصر أبداً على زواجها من الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي. مردّ هذا الخيار المركزي، الطاغي أيضاً على القصة القصيرة لدى عاشور، «يعود لأسباب عدّة، أولها أنّ لدي قناعة أنّ أي واقع نعيشه هو تاريخ من نوع ما، وثانيها أنّ وشائج الصلة في تقديري بين الرواية والتاريخ وشائج قوية، فالعناصر المشتركة بينهما متعددة»، كما أعلنت.
ثلاثية غرناطة الشهيرة («غرناطة»، 1994، و»مريمة» و»الرحيل»، 1995)، استلهمت التاريخ الأندلسي، لتسقط الكثير من فصوله على واقع العرب الراهن، متخوفة من أن يكون غزو العراق و»عاصفة الصحراء» بمثابة تكرار لسقوط غرناطة. «سراج»، 1992، اتخذت من جزيرة عربية متخيَّلة متكأ لإعادة سرد ثورة عرابي، والعلاقات الاستعمارية بين الغرب والشرق، على خلفيات عربية متشعبة تحيل إلى اليمن وعُمان، دون أن تغادر المشرق أيضاً. «قطعة من أوروبا»، 2003، تعود إلى تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل، الذي أراد أن يحوّل العاصمة المصرية إلى نسخة أخرى من باريس، حتى إذا كان الثمن الأوّل هو تشويه روح المدينة وتهديم عمرانها القديم، وما اقترن بالسيرورة من دسائس استعمارية وأحداث رهيبة على شاكلة حريق القاهرة. وفي «أطياف»، 1999، تلعب عاشور لعبة الرواية داخل الرواية، والنصّ السردي الذي يمزج بين الوثائقي (تفاصيل تسجيلية مستمدة من حياة الروائية نفسها) والمتخيَّل (شخصية شجر، الأستاذة الجامعية التي تكاد أن تمثّل أنا عاشور وضميرها المستتر)، في فسحة زمنية عريضة تبدأ من أعمال السخرة في قناة السويس، ولا تنتهي عند الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، ومجزرة صبرا وشاتيلا. وأمّا «الطنطورية»، 2010، فإنها تذهب إلى الطنطورة، القرية الفلسطينية التي شهدت في عام 1948 مذبحة لا تقلّ وحشية عن مذبحة دير ياسين، وتعيد كتابة تغريبة فلسطينية من طراز جديد، مكاني وزماني متعدد الأبعاد.
كذلك نشرت عاشور كتابين في السيرة الذاتية، «الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا»، و»أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية»؛ ومجموعتين قصصيتين: «رأيت النخل»، و»تقارير السيدة راء»؛ ولها في النقد الأدبي أعمال عديدة، لعلّ أبرزها «الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني»، و»التابع ينهض: الرواية في غرب أفريقيا»، و»الحداثة الممكنة: الشدياق والساق على الساق: الرواية الأولى في الأدب العربي الحديث».