- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/weekly -

تونس بين الإبهام والإرهاب… بقلم – محمد الحمّار

التباين بين واقع يقدَّمُ للمجتمع على أنه الحقيقة هو بعينه ‘الثقافة الجديدة’ التي بشر بها رئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي. الوظيفة الكلامية لتصريح من صنف ‘لا مكان للإرهاب في تونس’ في ظاهره استنكارٌ للواقع الإرهابي لكنه في الآن ذاته انغماس في هذا الواقع بما يكفي من القوة.

تمشيطٌ أمني على مرتفعات جبل الشعانبي تتخللها انفجاراتٌ لألغام واكتشافات لمخابئ أسلحة في أماكن مختلفة من جهة، وتجاذبات حول مسودة الدستور ومناقشات حول طبيعة نظام الحكم في تونس الغد ومشاورات حول استئناف الحوار الوطني من جهة أخرى، وما إلى ذلك من الفعاليات التي إن دلت على شيء فتدل على انسياق النخب السياسية والفكرية ومن ورائها الشعب بأكمله تقريبا نحو تكريس نسق مفروض فرضا عوضا عن التحكم بنسق ذاتي وأصيل.
إنّ المشهد بأكمله يوحي بعدم الاتساق بين السياسة (كنموذج نسبي للحقيقة) والحقيقة بعينها. فالأولى تأخذ الشعب إلى حيث لا يدري بينما الثانية مُغيبة عن الوعي الفردي والمجتمعي. ويتجلى تغييب الحقيقة في إقصاء العديد من الفئات الاجتماعية والمهنية والفكرية من كل حوار مصيري ومن الظهور في كل جهاز إعلامي فعال (الراديو والتلفزة).
إذن هل بالإمكان إنجاح الانتقال الديمقراطي والحالة تلك؟ بادئ ذي بدء، لو تم تشريك المقصيين من تربويين ومنظرين وغيرهم من محترفي البحث عن الحقيقة لن تكون عبارة “الانتقال الديمقراطي” بعينها متسقة مع الحقيقة. وهذا بحد ذاته يدل على انحراف مبدئي عن سكة التغيير الصحيح الذي يصبو إليه الشعب ابتغاء الارتقاء والتقدم. وسيكون من باب أولى تسمية الحاجة الفردية والمجتمعية في المرحلة الحالية “الثقافة الوسيطة” أي الثقافة التي من شأنها أن تلعب دور الوسيط بأن تؤَمّن الانتقال من طور الجمود الفكري والعاطفي والمادي إلى طور الحركة متعددة الأبعاد وهو الطور الذي سيسهل الانتقال، سواء اتصف هذا الأخير بالديمقراطي أم بوصف آخر يتلاءم مع طموحات الشعب وإرادته.
ولما غاب هذا الصنف من الثقافة فلا يصح العجب لرؤية المجتمع غارقا في مستنقعات العنف والتجاذب السياسي والفرز الإيديولوجي مثلما يوحي به المشهد الموصوف لأنّ من المفروض أن تنكبّ النخب على تصحيح التمشي نحو التغيير الهادف، لا أن تجاري التيار الجارف، بدعوى الواقعية ونبذ الإقصاء، الذي لا يملك من المرتكزات سوى عبارات إنشائية من قبيل “الانتقال الديمقراطي”.
ومن أخطر هذه العبارات المفرغة من كلّ محتوى خلاق تلك التي تتعلق بالتنظيمات الدينية على بكرة أبيها على غرار “السلفية” و”السلفية الجهادية” و”العلمية” وغيرها. فمجرد هرسلة المستمع للإذاعة والمشاهد للتلفزة بمثل هذه التسميات بدعوى لزوم التقرير الإعلامي وما يسنده من حق المواطن بأن يعلم ما يحدث في البلاد، هو في الحقيقة تكريس لتواجد مثل هذه التيارات وبالتالي تكريس للأحداث (العنيفة) المرتبطة بها.
بكلام آخر، هنالك توجه عام نحو توجيه الرأي العام (لا يهم أن نعرف مصدره بقدر لزوم الوعي بوجوده) إلى القبول بواقع جديد يشتمل على مكونات متناقضة مع الحقيقة ولو أنها تنتمي إلى الواقع. فالسلفية ليست حقيقة؛ الإسلام هو الحقيقة. والعنف الديني ليس حقيقة؛ الالتزام الديني هو الحقيقة. والتفجيرات باسم الدين ليس حقيقة؛ الفعل السياسي المستلهم من القيم الدينية هو الحقيقة. كما أنّ مسودة الدستور أو وثيقته ليست هي الحقيقة؛ العقد الاجتماعي غير المكتوب هو الحقيقة. وليس هنالك حقيقة اسمها “النظام البرلماني” أو “الرئاسي” أو “الرئاسي المعدل”؛ التوافق بين الإرادة والإدارة هي الحقيقة.
فهل هذا التباين بين واقع يقدَّمُ للمجتمع على أنه الحقيقة هو بعينه “الثقافة الجديدة” التي بشر بها رئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي؟ إن كان الأمر كذلك سيكون من السهل أن نفهم الوظيفة الكلامية لتصريح من صنف “لا مكان للإرهاب في تونس” (راشد الغنوشي في 9-5-2013). لئن كان مثل هذا القول في ظاهره استنكارٌ للواقع الإرهابي فهو في الآن ذاته انغماس في هذا الواقع بما يكفي من القوة، وبالالتزام بالواقع كأنه الحقيقة، للمطالبة بمقاومته (تصريح وزير الداخلية حول إمكانية تفعيل قانون الإرهاب قبل يوم من تصريح الغنوشي).
لكن على العكس من ذلك، كنا نتمنى أن يتخذ المجتمع، بفضل تفعيل القيادات المغيَّبة إعلاميا وبمساعدة هذه الأخيرة إياه، موقفا من الإرهاب ينأى شيئا فشيئا عن الواقعية المرَضية و يقترب أكثر فأكثر من الحقيقة. فمعالجة الإرهاب بواسطة الحل الأمني ليس إلا حلا مؤقتا لكنه موقوت أيضا. فالعنف الأمني (ولو كان مشروعا) تجاه الحركات المتعصبة والإرهابية يقود إلى رجع صدى يتسم بأكثر إرهاب.
أما السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المستوى: هل سنستمر في العيش في مثل هذه الحلقة المفرغة، التي هي بحد ذاتها إرهاب (سيكولوجي ومعنوي وفكري خصوصا) أم أننا ملزمون بمواجهة الحقيقة من أجل تحويل الواقع الإرهابي إلى واقع حركي، والواقع الاستقطابي إلى واقع وفاقي، والواقع السياسوي إلى واقع سياسي؟
إذا أردنا الخلاص فليس أمامنا أكثر من سبيل واحد يتسم بالوضوح بانتظار أن تلوح بوادر لسبل أخرى: إنّ المجتمع التونسي، مثله في ذلك مثل المجتمع العربي الإسلامي كافة، يقبل بصعوبة منقطعة النظير الاعتراف بأنّ الطريقة التي يفهم بها أحواله ومشكلاته هي التي حملته على توليد العلة (الإرهاب) وضدها (طلب الحل الأمني) في الآن ذاته.
لذا فمجتمعنا مطالب بتصحيح الرؤية إلى مناهج الفهم وأساليب معالجة القضايا المشتركة. والتصحيح أضحى ضرورة تتجاوز المجال السياسي والفكري لتقع تحت طائلة الحاجة لثورة معرفية. بهذا المعنى نتساءل ما دخل رجل السياسة أو عالم الدين أو رجل الأمن، وهم اللذين ينتمون إلى مستهلكي المعرفة لا إلى صانعيها، في صياغة طرائق الفهم؟ ولئن كان هؤلاء قادرون نظريا على جلب الإرهابيين من قمة جبل الشعانبي إلى البسيطة فإنّ معاينة دوام الوضع المبهم هناك يدل على أنّ المهارة المعرفية، المولدة للفعل السياسي الصائب، ليست قادرة بعدُ على جلب الفكرة (سيما الدينية) من قمة العقل النظري إلى المجال الميداني البسيط.