| نشر في نوفمبر 6, 2013 12:11 م | القسم: آراء ومقالات | نسخة للطباعة :
إدارة أوباما ليست إدارة اشتراكية، لكنها أدركت أن لا مناص من ضرورة إدخال حد أدنى من الإصلاحات على نظام السياسة الاجتماعية الأمريكي . وهي الإصلاحات التي يعارضها، ويعمل على عرقلة تطبيقها، الحزب الجمهوري، عموماً، وجناحه النافذ والأشد يمينية وتطرفاً اجتماعياً وسياسياً، “حزب الشاي”، خصوصاً . ويلفت الانتباه أن نواب الحزب الجمهوري في الكونغرس ليسوا ضد التصويت لمصلحة رفع سقف الاستدانة كما يطالب نواب الحزب الديمقراطي، لكنهم يشترطون ذلك بتخلي إدارة أوباما عن خططها الإصلاحية، وعن خطة “أوباما كير” لإصلاح نظام الرعاية الصحية بالذات . لذلك فإن من التبسيط اختزال أسباب الأزمة المالية الأمريكية الجارية في الخلاف السياسي بين إدارة أوباما والحزب الجمهوري حول إقرار الموازنة وتحديد كيفية صرفها . فهذا الخلاف هو مجرد تجلٍ لخلاف أعمق حول سبل معالجة الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في العام 2008 في الولايات المتحدة، وألقت، ولا تزال تلقي، بانعكاساتها السلبية الثقيلة على الاقتصاد العالمي . ماذا يعني هذا الكلام؟
إن إرجاع الأزمة المالية الأمريكية الجارية إلى الظاهر من أسبابها يعني في الواقع طمساً لصلتها العميقة بالأزمة الاقتصادية، من جهة، وتهرباً من البحث في الحلول الشافية لها، من جهة ثانية، وإعفاءً للنظام السياسي الاجتماعي الأمريكي من مسؤولياته عما يعانيه الشعب الأمريكي، ومعه، بتفاوت، جل شعوب دول العالم من أزمات اقتصادية بكل تأثيراتها السلبية سياسياً واجتماعياً، من جهة ثالثة . إذ رغم أن إصلاحات إدارة أوباما، (مع ما يعترض سبيل تطبيقها من مصاعب)، لا ترتقي إلى مستوى معالجة أزمة اقتصادية بنيوية لا يحلها غير التخلي عن نظام الليبرالية الجديدة الذي أنجبها، إلا أن الحزب الجمهوري لا يرى حاجة إلى هذه الإصلاحات التي لا تشكل سوى الحد الأدنى الضروري من تدخل الدولة في نظام السوق الحرة الفالت من كل عقال، بل وثمة داخل هذا الحزب اتجاه نافذ لا يزال يرى في شن حرب جديدة للسطو على ثروات دول أخرى سبيلاً لحل مشاكل نظام أنتج واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية العالمية في التاريخ المعاصر، وكان لحروب “المحافظين الجدد” دور أساسي في تسريع انفجار هذه الأزمة وتفاقمها في الولايات المتحدة، بخاصة، وفي العالم، بعامة .
هنا تتجلى صدقية وواقعية مقاربة مجازية ذائعة تقول: “تكذب أنظمة الرأسمالية الغربية إذا كانت ربحيتها 10%، وتقتل إذا كانت ربحيتها 50%، وتشن حرباً إذا كانت ربحيتها 100%” . مقاربة يزكيها، (وزكاها)، أن أصحاب احتكارات النظام الرأسمالي الغربي، والأمريكيين منهم بالذات، كانوا دوماً أول المبادرين إلى وضع الحروب على رأس الأجندة لتعظيم ثرواتهم على حساب شعوبهم وشعوب العالم كافة، اللهم إذا كان بوسعهم تحقيق ذلك بالقوة الناعمة، أو إذا كانت أمامهم قوى سياسية تعكس إرادة شعوب قادرة على تحويل حروبهم إلى مشاريع خاسرة . أما الرادع الأخلاقي فلا وجود له في قاموسهم .
وفي ظني أن هذا هو السبب الأعمق والأكثر جوهرية وراء ما تعيشه الولايات المتحدة من خلافات وتراجعات سياسية حادة . فارتدادات نظام الليبرالية الجديدة ووحشية خيار عولمته بالقوة العسكرية انعكست على أصحابه الغربيين قبل غيرهم . حيث لم يعد أمام الشعب الأمريكي المثقل، ومعه الشعوب الأوروبية، بالانعكاسات الاجتماعية الحادة لهذا النظام، وبالخسائر البشرية والمادية والمعنوية الهائلة لحروبه، سوى القبول بالواقع والتكيف مع شكل جديد للعولمة تكون الولايات المتحدة فيه أحد الأقطاب وليس القطب الوحيد، بما ينعكس إيجاباً على حياة المواطنين الأمريكيين والأوروبيين المطالبين بتوفير المصروفات المهولة على الحروب لمصلحة أهداف التنمية المختلفة . ما يعني أن خلاف إدارة أوباما مع معارضي إصلاحاته الاجتماعية الداخلية المحدودة، ومع منتقدي إحجامه عن شن حرب أمريكية كبرى جديدة، لا يعود إلى أسباب أخلاقية أو إلى اختلافات في المزايا الشخصية، إنما إلى ما تعيشه الولايات المتحدة من أزمة اقتصادية سببها الأساس أنها كدولة تضع موازنات فوق قدراتها اعتماداً على فوائض دول غنية مثل الصين واليابان وألمانيا وبلدان الخليج العربي . إذ صحيح أن قدرة الولايات المتحدة على جلب هذه الفوائض تعتبر نجاحاً، لكنها تمثل نقطة ضعف اقتصادية بنيوية تتجلى على شكل أزمات مالية . وستبقى الحال على هذا النحو طالما استمرت السياسة الاجتماعية الأمريكية القائمة . أما لماذا؟ قصارى القول: الولايات المتحدة تعاني أزمة نظام وليس مجرد أزمة حكومية عابرة، ما يفسِّر مفارقة أن تظهر على صورة عملاق اقتصادي مفلس، رغم أنها لا تزال البلد الأقوى اقتصادياً وتكنولوجياً بإنتاج سنوي يناهز 5 تريليون دولار، ويسيطر على إمبراطورية احتكارات عالمية أكثر من نصفها وأقواها أمريكية . بل ويفسِّر أيضاً التغير الحاصل في موازين القوى في السياسة الدولية ونظامها وقراراتها ومؤسساتها، حيث لم تعد الولايات المتحدة قطباً منفرداً في السيطرة على العالم، ما يحد من قدرتها على شن الحروب الكبيرة وقتما تشاء وحيثما تريد، رغم أنها تملك قوة عسكرية طاغية قادرة على احتلال البر والبحر وشن الحروب خارج نطاقها الإقليمي في أية بقعة من العالم .
أبريل 17, 2024 0
أبريل 17, 2024 0
أبريل 17, 2024 0
أبريل 17, 2024 0
أبريل 17, 2024 0
Sorry. No data so far.