- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/weekly -

الحرب الاهلية الرأس مالية في العالم: قراءة اقتصادية سياسية للمواجهة في أوكرانيا(2-2)

تضيء هذه الدراسة على عدد واسع من الجوانب التحليلية الاقتصادية والامنية والسياسية للصراع الجاري الان في شرق اوروبا. فيما يلي الجزء الثاني والاخير.

لكن هذا جزء بسيط من نتائج تلك السياسات.  فالبنية الاقتصادية أصبحت عاجزة عن التنافس في الإنتاجية وبالتالي في النمو الفعلي.  بمعنى آخر إن الناتج الداخلي الذي ارتفع من 1،7 تريليون دولار سنة 1975 إلى 23 تريليون دولار سنة 2020 أي 14 اضعاف لم يجار الارتفاع بقيمة البورصة لنفس الفترة حيث ارتفع الدو جونز بنسبة 54 أضعاف.  فكيف يمكن أن ترتفع قيمة الشركات بتلك النسبة التي تفوق ارتفاع الناتج الداخلي كمّا ونسبيا؟ وهنا لم نتكلّم عن الخسارات المحتملة في البورصات الأميركية وخاصة في المشتقات الورقية التي تعود إلى اقتراض مفرط مبني على تقديرات للمستقبل دون أي سند.  فالخسارات المحتملة قد تكون بالكوادريليونات من الدولار أي أرقام فلكية.   وإذا اعتمدنا الإحصاءات التي تقدّر القيمة السوقية للشركات الأميركية المتداولة في الأسواق أي ما يوازي 68 تريليون دولار فهذا يعنى أن هناك ثروة معظمها افتراضية لا تتماهى مع الإنتاج الفعلي.    فمن أين اتى ذلك الفارق؟
الفارق مصدره السياسات النقدية المعتمدة وخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية حيث التسهيل الكمي النقدي (quantitative easing or QE) التي اعتمدها الاحتياط المركزي أدّى إلى إمداد الشركات بأموال (وبالتالي إلى تفاقم دينها) ليس لزيادة الطاقة الإنتاجية بل لرفع قيمة أسهمها!  فالمسؤولون في الشركات الأميركية يتقاضون أتعابهم عبر الأسهم التي يأخذونها وبالتالي أصبحت اولويتهم رفع قيمة تلك الأسهم وإن كان على حساب الشركة التي يديرونها!  والأمور لم تتوقف عند هذا الحد.  فالاقتراض المسهّل بفوائد منخفضة جدّا أدّى إلى تدمير البنية الإنتاجية عبر وأد التنافس. فالعقود الثلاثة الماضية شهدت تمركزا شديدا لمعظم القطاعات الاقتصادية في المال والنقل الجوي وإنتاج السيارات وشركات التواصل والمؤسسات المالية وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.  فالاقتصاد الأميركي أصبح اقتصادا تحكمه الحالة الاحتكارية وليست التنافسية ما أدّى إلى تراجع الحوافز للتجديد والابداع وبالتالي التقدّم التكنولوجي.
الصورة مختلفة كلّيا إذا نظرنا إلى النموذج الصيني حيث حقّقت الصين معدلات نمو قياسية خلال العقود الأربعة الماضية وصلت إلى ثلاث أضعاف معدّلات النمو في الولايات المتحدة.  السياسات المالية والنقدية أدّت إلى ارتفاع الاستثمارات في البنى التحتية والتعليم وفي الطاقات الإنتاجية وليس لدعم أسهم الشركات!!  الاستثمار كان في البشر كما كان في الحجر!  لذلك استطاعت رفع أكثر من 250 مليون صيني من مستوى الفقر إلى مستوى الطبقة الوسطى بينما نشهد انقراض الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة والغرب الذي يتبع النموذج الأميركي عموما (بما فيه لبنان!). والصين استفادت من التكنولوجيا الغربية لتمكين وتطوير قاعدتها الإنتاجية حيث أصبحت أكبر دولة صناعية في العالم.  والنموذج الصيني استند إلى دعم الدولة للقطاعات الإنتاجية سواء كانت مملوكة من القطاع العام أو من القطاع الخاص كما حافظت على التنافس وكبحت من الاحتكار.  فالاحتكار هو مصدر ريعي بامتياز للثروة بينما الإنتاج مصدر عيني لها.
النموذج الصيني مزج بين قيادة سياسية مركزية متسلّطة (authoritarian) حصرت في الدولة مركزية التخطيط بينما النموذج الغربي اعتمد على قوّامة المؤسسة المالية في فرض الخيارات الاقتصادية على السوق.  فالمؤسسات المالية المهيمنة، وهي خمس مؤسسات فقط تملكها أربع شركات استثمار وتوظيف فقط، هي التي تحدّد الخيارات مع الاحتياط الاتحادي الذي هو أيضا مملوك من مصارف خاصة.  أي بمعنى آخر الدولة خارج إطار التوجيه للاقتصاد العام وتتكل على “حكمة” السوق الذي تسيطر عليه الشركات المالية.  فلا عجب التراجع في الإنتاجية والقدرات التنافسية، ولا عجب في الانكشاف تجاه الخارج بشكل عام والصين بشكل خاص لتلبية حاجاتها.  النخب الحاكمة أدركت تلك المفارقة ولكن بعد أن فات الآوان.  وهي تجهد منذ عقد من الزمن كبح النمو الصيني عبر وسائل عدة ولكنها لم تنجح بينما كان من المفترض مراجعة سياساتها ونموذجها الاقتصادي والعودة إلى عهد التصنيع بدلا من الخدمات الريعية.
محاصرة الصين للانقضاض عليها تتطلب التخلّص من تحالفها مع روسيا.  لذلك المواجهة مع روسيا التي بدأت فعلا بعد مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007 حيث حذّر الرئيس الروسي بوتين من القطبية الواحدة وضرورة إعادة صوغ الامن الدولي على قاعدة احترام مصالح الدول بينما الولايات المتحدة المتفرّدة بالقرار الدولي لا تقبل بأي مشاركة.  حاولت الولايات المتحدة كبح الصعود الروسي بقيادة بوتين الذي قضى على النخب المتحكمة بروسيا التي أوجدتها الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.  فكان عصر صعود الاوليغارشيات الروسية ومعها الغربية لنهب ثروات روسيا.  مع وصول بوتين إلى السلطة توقّفت هذه العملية إلى حد كبير وهذا ما أزعج الولايات المتحدة التي حاولت محاصرة روسيا.  فكانت موجة الثورات الملوّنة في أوكرانيا وجورجيا وحتى مؤخرا في كازخستان. والمواجهة المباشرة مع روسيا بدأت في عهد الرئيس الأميركي أوباما وفي أوكرانيا بالذات سنة 2014 مع الانقلاب الأميركي ضد النظام القائم في أوكرانيا والمنتخب ديمقراطيا. أدركت روسيا أن المواجهة مع الأطلسي لا مفرّ منها وبدأت التخطيط لها.  لحظة المواجهة حددتها روسيا بعد أن أيقنت أن الأطلسي يهدف إلى قلب النظام في روسيا وعبر استنزافها في “مستنقع” أوكرانيا.  غير أن الرياح الروسية لم تكن كما اشتهت السفن الأطلسية بشكل عام والأميركية بشكل خاص فكانت المواجهة التي نشهدها الآن والتي تنذر بزوال أوكرانيا وهزيمة الأطلسي والولايات المتحدة.
المهم في هذه المقاربة هو التركيز على التنافس بين رأس ماليتين. فالرأس المالية الريعية الأميركية الغربية لم تعد قادرة على التحكّم بالاقتصاد العيني بل فقط بالاقتصاد الافتراضي المالي وذلك عبر سيطرتها على شرايين المال.  المواجهة مع روسيا عجّلت في العمل على إقامة نظام مالي خارج سيطرة الولايات المتحدة.  والقرار الروسي بعدم التعامل في مبيعات الغاز الروسي للاتحاد الأوروبي يشكّل ضربة قاسمة لهيمنة الدولار وأو اليورو ويكرّس جدوى التعامل بالعملات الوطنية كالروبل واليووان الصيني والروبية الهندية وسائر العملات الوطنية للدول الرافضة للهيمنة الأميركية، وذلك وفقا للاقتصاديين الأميركيين المرموقين ريتشارد ولف ومايكل هدسون.  وفقدان النظام الرأس المالي الريعي المالي القدرة على السيطرة على شرايين المال يضرب في الصميم النموذج الذي اعتمدته الولايات المتحدة منذ أن قرّرت توطين قاعدتها الإنتاجية خارج الولايات المتحدة.  وجاءت جائحة الكورونا لتكشف هشاشة ما تبقّى من القاعدة الإنتاجية الأميركية حيث معظم قطع الغيار للمصانع الأميركية تأتي من الخارج وخاصة من الصين.  فالولايات المتحدة أصبحت بحاجة إلى العالم أكثر مما العالم بحاجة إلى الولايات المتحدة.
هذا هو الدافع المركزي لدى النخب الحاكمة في الولايات المتحدة لمواجهة روسيا.  فهي معركة بقاء لنموذج اقتصادي سياسي يعتمد تمركز الثروة في يد القلّة ويؤثّر على المجتمع الأميركي الذي تحوّل إلى سوق استهلاكي فقط لا غير دون أن يكون أي رأي له.  وكذلك الأمر في الاعلام الغربي عموما حيث الرأي الواحد هو السائد.  فتمركز الاعلام الأميركي بيد ست شركات فقط يساهم في السيطرة على السردية السياسية المطلوبة ويضبط تدفق المعلومات.  كذلك الأمر بالنسبة لشركات التواصل الاجتماعي التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة.  وقد اتبعت هذه الشركات سياسة “إلغاء” الرأي الآخر ضاربة عرض الحائط الحق الدستوري في حرّية التعبير.  كما يقوم الاعلام الشركاتي المهيمن وشركات وسائل التواصل الاجتماعي بتحويل انتباه المواطن الأميركي عن القضايا الأساسية عبر التركيز على قضايا أخلاقية وثقافية لا تمسّ بمصالح الراس المالية الريعية المالية.  فخلال جائحة الكورونا تمّ تغييب الحديث عن البطالة التي حصلت من جرّاء الجائحة وإقفال المشاريع.  كما أنه تمّ استبدال الخطاب الثقافي بالخطاب المسائل لتوجهات الحكومة على الصعيد الاقتصادي والسياسي.  كما تمّ أيضا تحميل مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية للرئيس الروسي بوتين كما جاء على لسان الرئيس الأميركي بايدن عندما صرّح بأن ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة هو من صنع بوتين!
ما يسيطر في الاعلام الأميركي ووسائل التواصل الاجتماعي هو انقلاب على المفاهيم والقيم المجتمعية عبر ترويج ثقافة الوعي (woke culture) التي تريد إعادة هندسة القيم المجتمعية كالجنوسية (gendering) التي تريد الغاء التمايز بين الذكور والإناث حتى عند الأطفال أي التسيّب في تحديد الجنس أو (gender fluidity)، وثقافة مكافحة العنصرية التي امتدت إلى كل شيء لا يتماهى مع مصالح النخب الحاكمة.  فكل ذلك يتيح الفرصة للتكتلات الاقتصادية الاحتكارية الحفاظ على مصالحها دون أي مساءلة أو محاسبة.  فالوضع الاقتصادي اليوم في الولايات المتحدة على وشك الانفجار السياسي والاجتماعي وما زالت النخب الحاكمة تعتقد انه باستطاعتها السيطرة على الأمور عبر السيطرة في الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.  الاستثمارات التي تحصل في الولايات المتحدة لا تعود إلى تنمية وتطوير الطاقة الإنتاجية لأن هدف النمو لم يعد لتحسين الأوضاع الاقتصادية للمجتمع بل لزيادة أرباح المستثمرين وإن كانت تلك الأرباح وهمية وافتراضية.
هذا التمركز الإعلامي الضاغط على حرية التعبير موجود أيضا في كل من الصين وروسيا.  لكن الفارق هو أن الحكومتين استطاعتا أن تقدما للمواطن ما يريده.  لذلك نرى تماسكا اجتماعيا في كل من روسيا والصين يمكن الحكومات من الاستمرار في بناء مجتمع أفضل على قاعدة التزاوج بين اقتصاد السوق وحكومة مركزية قوية تضبط إيقاع السوق عبر التخطيط المركزي.  فالتخطيط المركزي ضرورة لضبط إيقاع اقتصاد معقد ومركّب مع تزايد السكان. الحل في الغرب هو عبر السيطرة على الشعوب عبر نزع حرّياتها في الحد الأدنى وتخفيض أعدادها في الحد الأقصى كما دعا كل من كيسنجر وبيل غيتس وكلوس شواب رئيس منتدى دافوس.  هذا ما غذّى الجدل حول جدوى اللقاحات في جائحة كورونا.  في القرن التاسع عشر كان البريطانيون يروّجون لتجارة الافيون للسيطرة على القارة الآسيوية.  في القرن الحادي والعشرين الافيون الجديد هو ما ابتكرته وسائل التواصل الاجتماعي لتخدير الناس وخاصة الشباب عن متابعة القضايا الجوهرية عبر التركيز على الملذّات.  الهدف هو إفقار الناس ولكن برضاهم وجعلهم سعداء في ذلك الفقر!
الصراع بين الرأس الماليتين هو صراع بين سيطرة الأسواق المالية على المقدرات الاقتصادية (الرأس المالية الريعية المالية) وبين التمازج بين التخطيط المركزي وقوّامة الدولة من جهة مع مقتضيات اقتصاد السوق (الرأس المالية الإنتاجية).  النموذج الأول لا يكترث بمصلحة الشعوب بل يكترث لمصلحة المساهمين فقط لا غير بينما النموذج الثاني يعتبر سعادة الانسان الهدف الرئيسي.  لذلك وجدنا أن النموذج الريعي المالي لا يستثمر في البنية التحتية التي يستفيد منها الجميع بينما النموذج الثاني استثمر بكثافة في البنية التحتية وخاصة في التربية والتعليم.
هذا لا يعني أن الرأس المالية الإنتاجية هي معصومة من الخطأ الأخلاقي إلاّ أنها تحاول تخفيف من سطوة رأس المال على العمل.  هذا هو دور الحزب الشيوعي الحاكم في الصين وهذا هو دور الدولة القوية في روسيا.  إعادة توزيع الثروة بشكل عادل يساهم في الحفاظ على النموذج الاقتصادي.  هذا ما قامت به الرأس المالية الغربية عندما كانت إنتاجية وليست ريعية.  فمنذ ثلاثينات القرن الماضي أدركت ضرورة توزيع الثروة وإن بالحد الأدنى عبر مشاريع اقتصادية اجتماعية لمنع انتشار الشيوعية.  لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لم تجد النخب الحاكمة في الغرب أي مبرر لتوزيع الثروة بل أقدمت على إجراءات أدّت إلى تمركز الثروة بيد القلة. وهدف النخب الحاكمة النيوليبرالية في الراس المالية الريعية الإطاحة بما تبقّى من الدولة الريعية كالضمان الاجتماعي.  ففي معتقد هذه النخب وذلك النموذج تحوّلت إلى الحقوق الاجتماعية إلى امتيازات يجب دفع ثمنها.  المواطن لا حق له بالعمل او التعليم أو الاستشفاء أو الإسكان فهذه امتيازات عليه أن يدفع ثمنها.  هذا هو الحال في لبنان!  أما في النموذج الرأس المالي الإنتاجي وخاصة مع وجود الحزب الشيوعي في الحكم فإن العمل والتعليم والاستشفاء والإسكان حقوق وليست امتيازات.  كذلك الأمر في روسيا وفي كل الدول التي تعتبر رفاهية المواطن واجب.

زياد حافظ*
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربية وعضو المنتدى الاقتصادي والاجتماعي في لبنان