- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/weekly -

في حضرة الحضور.. بقلم – أيهم السهلي

أتاح لي عمري أن أرى الشاعر الفلسطيني محمود درويش مرة واحدة، في دمشق، في أمسيته التي أقامها على مدرج مكتبة الأسد في العام 2005.
كان يوم جمعة، وكنت والأصدقاء (الرفاق) في ورشة عمل طويلة بدأت في صباح ذاك اليوم، في مخيم اليرموك في قاعة خالد نزال، والجميع عند اقتراب موعد الأمسية طلب من المحاضر إنهاء الجلسة من أجل الأمسية. وخرجنا جميعا.. وكانت الدهشة حين خرجنا إلى شارع اليرموك لنجد أعدادا غفيرة من الشباب والرجال والنساء من مختلف الأعمار، يهمون للذهاب إلى مكتبة الأسد، لحضور الشاعر الفلسطيني.
أشك أن الجميع في حينها كانوا من المهتمين في الأدب عموما، والشعر خصوصا، لكنه محمود درويش بما يحمله من رمزية فلسطينية، هذه الرمزية التي جعلت المخيم في حينها يذهب إلى مكتبة الأسد في ساحة الأمويين في دمشق ليتابع مباشرة هذا الفلسطيني القادم من الجنوب من بلادنا التي نشتهي.
وصلنا وكان الحضور في الانتظار على أبواب المكتبة بساعة ونصف ينتظرون فتح الأبواب للدخول إلى القاعة المخصصة.. بانتظار ظهور النجم، يومها استطعت الدخول إلى القاعة التي سيظهر فيها درويش أمامنا مباشرة، حيث جهزت قاعات أخرى بشاشات لمتابعة الأمسية. ظهر درويش، حيا الحضور، ألقى القصيدة تلو الأخرى، وفتاة بين كل قصيدة وأخرى تسأله «لماذا كبرت ولم تنتظرني»، ليجيبها أخيرا هذا الفارس الذي لا يترجل عن حصانه «لماذا لم تكبري مثلي».
في ذلك اليوم، في تلك الأمنية التي عشتها حقيقة، تابعت ظل درويش، ربما لكثرة حديثه عن الظلال، وراقبت حركته ورصانته، استوقفني فيه ذاك الصوت الممزوج حقا بالكون، حينها أدركت أن درويش ليس لنا وحدنا نحن أبناء فلسطين، كما يطيب لنرجسيتنا أن تعتبر، درويش هو ذاك الشعر الموزع عدلا لكل القضايا، وما القضية الفلسطينية إلا رمز شعري لقضايا عادلة أخرى، لتصبح فلسطين بحد ذاتها مفردة رمزية قائمة بذاتها في معجم درويش الشعري.
وربما اللقاء المباشر مع القصيدة عبر شاعرها، يفتح الآفاق لمعرفة أخرى مختلفة عن تلك المتصورة من خلال الورق، فالقصيدة هي القصيدة، وليس على القارئ أن يبحث في شخص الكاتب من خلال النص، هو شأن الناقد على كل حال، الربط بين حياة الأديب ونصه، للوصول إلى تحليل عميق يغور في المعنى. لكن المتلقي العادي أو المهتم له أن يتواصل مع الشاعر شكلا بالعين المجردة، وصوتا، واحساسا، وهنا تكتمل فيما أرى العملية الإبداعية بين المبدع والمتلقي. وهذا ما يحصل في أمسية درويشية، ويزيد الشعر بيتا كاريزما درويش التي تفرض حضورها، لتتحول القصيدة إلى ترتيلة والمكان الذي تلقى فيه إلى معبد.
رحل درويش قبل خمسة أعوام، ولم يزل تراب قبره يتنفس القصيدة.