- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/weekly -

البيان التَّأسيسي للمُبادَرة السُّودانيَّة لمُناهضة التَّطبيع

الاهالي – في مَنحًى يُعَدُّ انْحرافاً خطيراً عن مسار ثورة ديسمبر المجيدة، والتفافاً على قيَمها وأدبيَّاتها وحقِّ شعبها في الإمساك بمصيره السِّياسيِّ، وتجاوُزاً لصلاحيَّات ما أنتجتْهُ الثَّورةُ من وثيقةٍ دستوريَّةٍ ومؤسَّساتِ حُكم، قرَّرتِ السُّلطةُ الانتقاليَّةُ المُضِيَّ قُدُماً في خُطوة التَّطبيع مع الكِيان الصِّهيوني، الَّتي ابتدرها رئيسُ مجلس السِّيادة عبدالفتَّاح البُرهان، حينما التقى برئيس الوزراء الإسرائيليِّ بنيامين نتنياهو في عنتيبي مَطلَع فبراير الماضي، والخُضُوع للإِملاءات والضُّغوطات الَّتي مارستها الإدارةُ الأمريكيَّة بربط التَّطبيع مع إسرائيل برفع اسْم السُّودان من قائمة الدُّول الرَّاعية للإرهاب، ضاربةً عُرْض الحائط بما قدَّمتْه من تعهُّداتٍ على لسان رئيس الحكومة الدُّكتور عبدالله حمدوك، بألَّا تتَّخذ السُّلطة الانتقاليَّة أيَّ إجراءاتٍ خاصَّةٍ بالتَّطبيع، على اعتبار أنَّ ذلك ليس من اختصاصاتها، ما حدا بعددٍ كبيرٍ من أبناء الوطن بالتَّفاكر فيما أقدمتْ عليه السُّلطة والنِّقاشِ بشأنه؛ نظراً لما يُمثِّله من خُطُورة على مسار التَّحوُّل الدِّيمقراطيِّ في البلاد، وما يُمثِّله من تهديدٍ لوَحدة السُّودان واستقراره، فتَقرَّرَ من خلال النِّقاشات الواسعة الإعلان عن «المبادَرة السُّودانيَّة لمُناهضة التَّطبيع»؛ كي تكُونَ بمَثابة العُنوان الَّذي يَعمل عبْره الطَّيف الواسع من أبناء الشَّعب السُّودانيِّ الرَّافض للتَّطبيع، في سبيل تمتين الموقف الشَّعبيِّ، وتوحيدهِ انطلاقاً من آفاق ثورة ديسمبر، وتشكيل كُتْلةٍ شعبيَّةٍ للضَّغط على السُّلطة بكلِّ الوسائل السِّلميَّة والمشروعة والمُتاحة، حتَّى لا تتمادَى في الاستخفاف باستحقاقات الإرادة الشَّعبيَّة الحُرَّة، الَّتي جاءت بدماء شهداء قدَّموا أرواحهم؛ من أجل أن تُصبحَ السِّيادةُ على أرض السُّودان لشعبه، ليعيشَ بعزَّةٍ وكرامةٍ وِفق تقاليده ومبادئه وقِيَمه الرَّمزيَّة.
إنَّ التَّصوُّر بأنَّ مسألة التَّطبيع مع الكِيان الصِّهيونيِّ تُعتبَر مَلفَّاً يَرتبط بالعلاقات الخارجيَّة، وما يَندرجُ تحتها من ممارسة دبلوماسيَّة تُتيح للسُّودان تعزيزَ حُضُوره الدَّوليِّ، وتبادُل المَنافِع مع الدُّول الأخرى بما يُحقِّق المصالح العُليا للشَّعب، ليس سوى تزييفٍ حقيقيٍّ لفخٍّ تمَّ نَصْبه بإِحكامٍ للسُّلطة، حتَّى يتمَّ احتواؤها والسَّيطرةُ عليها، ووقْفُ المدِّ الثَّوريِّ للسُّودانيِّين، وإِجهاض أحلامهم، بالاستفادة من مُعاناتهم الاقتصاديَّة وتوظيف سُوء أوضاعهم المادِّيَّة، لمصلحة «صَفْقة القَرْن»، الَّتي تتطلَّب من الولايات المتَّحدة إعادةَ ترتيبِ أوراقِ الُّلعبةِ في المنطقة على أساس توازُنات القوَّة الموجودة؛ لفائدة توسيع مساحات الإحتلال الإسرائيليِّ على مُجمَل الأراضي الفلسطينيِّة، وتهجير ملايين الفلسطينيِّين إلى دول الجِوار، حيث يُستلزَمُ من ذلك قَبُولُ النِّظام العربيِّ الرَّسميِّ أوَّلاً بشِعار»السَّلام مُقابِل السَّلام»، وتنازلُهُ عن شعار «الأرض مُقابِل السَّلام»، الَّذي أقرَّتْه مُبادَرةُ السَّلام العربيَّة، المُتمثِّلة في الاعتراف بإسرائيل مُقابِل عودتها لحُدُود ما قبل 1967، وإِنشاء دولةٍ فلسطينيَّةٍ عاصمتها القُدس الشَّرقيَّة، والتَّوصُّل إلى حلٍّ عادلٍ لمشكلة اللَّاجئين الفلسطينيِّين، وِفقاً لقَرار الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة رقم 194.
وبلا أدنى شكٍّ، فإنَّ من المُبكِّر معرفةَ الحَيثيَّات الدَّقيقةِ لمَوقِع السُّودان على خارِطة الإستراتيجيَّة «الأمريكيَّة – الإسرائيليَّة»، بيدَ أنَّ حُمَّى التَّطبيعِ العربيَّةَ مع إسرائيل الَّتي بدأتْ بالإمارات والبحرين، وستتواصل لتشملَ خمسَ دُولٍ عربيَّةٍ بحسب ما أشارتِ الإدارةُ الأمريكيَّة، وعمليَّة الابتزاز الَّتي تعرَّضتْ لها الحكومةُ السُّودانيَّة، والفرحةُ الإسرائيليَّةُ الكبيرةُ بمُوافقة السُّودان على التَّطبيع، كلُّ ذلك إنَّما يُؤكِّد أنَّ موارِد السُّودان وموقعَهُ الجُغرافيَّ سيُشكِّلانِ أهميَّةً كُبرى لدعم الخُطَّة الاستعماريَّة الجديدة.
إنَّ القول بأنَّ خُطوة التَّطبيع لا تتنافى مع الوثيقة الدُّستوريَّة، يُعبِّر عن موقفٍ سياسيٍّ لا يَتضمَّنُ أيَّ مُسوِّغ دستوريٍّ وقانونيٍّ؛ فالوثيقة ألزمتِ السُّلطةَ الانتقاليَّةَ بالحِفاظ على استقلال السُّودان وسيادتهِ الوطنيَّةِ أثناء إدارتها للعلاقات الخارجيَّة، فضلاً عن أنَّ إقامة أيِّ علاقةٍ مع إسرائيل تُعدُّ مخالَفةً واضحةً لقانون مُقاطَعة إسرائيل لسنة 1958، الَّذي يَحظِر على أيِّ شخصٍ عَقْدَ اتِّفاقٍ من أيِّ نوعٍ مع هيئاتٍ أو أشخاصٍ مُقيْمين في إسرائيل، أو مع هيئاتٍ أو أشخاصٍ يعلَمُ أنَّهم يَنتمونٍ بجِنسيَّتهم إلى إسرائيل أو يَعملونَ لحسابها.
وإضافةً إلى الموقِف القانونيِّ، والالتفافِ الكبيرِ على مؤسَّسات الحُكم الانتقاليِّ والخِيارِ الشَّعبيِّ في البتِّ بقضيَّة التَّطبيع؛ فإنَّ الموقفَ الإنسانيَّ الصَّحيح للنَّظر إلى دولة الكِيان الصِّهيونيِّ يُحتِّم علينا عدم تجاوُزِ حقيقةِ هذا الكِيان، باعتباره كِياناً عُنصريَّاً توسُّعيَّاً استيطانيَّاً يُمثِّلُ الإرهابُ جوهرَ وُجُودِه، ولا يَعترِف بمواثيق حُقُوق الإنسان والقوانين الدَّوليَّة، ويُجسِّدُ بوضوح صورةً أخرى لنظام الأبارتايد (الفصل العُنصري)، وتُحرِّكه الأحلامُ التَّوسُّعيَّةُ لتأسيس دولةٍ تُخالفُ كلَّ مقرَّراتِ الأمم المتَّحدة، فكيف يُمكِن التَّطبيعُ مع كِيان توسُّعيٍّ ذي حُدُودٍ سياسيَّةٍ مبهَمة، ويَعتبر نفسَه فوق القانون الدَّولي؟، وما هي المصلحةُ الَّتي سيَجِدُها الشَّعبُ السُّودانيُّ من التَّطبيع مع نظامٍ مصنوعٍ يَعيشُ على الإعانات، وجوهرُهُ الإرهاب؟.
لقد ظلَّتِ القضيَّةُ الفلسطينيَّةُ تُمثِّلُ قيمةً رمزيَّةً كبيرةً لدى السُّودانيِّين منذ نَكْبة عام 1948، ففلسطينُ هي أرض المُقدَّسات الإسلاميَّة والمسيحيَّة، وفلسطين هي ميزانُ الحقِّ في صِراعه مع الباطل، وهذا الموقف الإنسانيُّ الكبير تمسَّكت به كلُّ حركات التَّحرُّر والكفاح على مستوى العالم في أفريقيا والمنطقة العربيَّة وأمريكا اللَّاتينيَّة، ويجبُ علينا اليوم تذكُّرُ مواقف الزعيم الكبير ورمزِ التَّحرُّر والنِّضال في أفريقيا والعالم نيسلون مانديلَّا الَّذي ساند القضيَّةَ الفلسطينيَّةَ بكلِّ ما أُوتيَ من قوَّة وقال عنها: «إنَّ فلسطين هي أكبر قضيَّة يُواجهها العالم، ونحن واجهنا نفسَ التَّاريخ الوَحشيِّ والمؤلم»، وقال أيضاً: «إنَّ حُرِّيَّتنا لن تكونَ كاملةً بدون حُرِّيَّة الشَّعب الفلسطينيِّ».
إنَّنا في المُبادَرة السُّودانيَّة لمُناهضة التَّطبيع، نُؤكِّد أنَّ الشَّعب السُّودانيَّ ليس بجرَادٍ جائعٍ حتَّى يَنظُرَ للعالم من حوله ولمستقبله ولحركته بحسابات البحث عن القمح، فهذا تقزيمٌ له، وحَطٌّ من كرامته وقَدْره، وعدمُ استيعابٍ للقيمة الإِنسانيَّة لثورته، الَّتي ضربَ فيها أروعَ الأمثلة في التَّضحية والشَّجاعة باعتراف العالم، كما أنَّنا سنظلُّ نَعملُ من خلال مٍنابِر الوعي حتَّى نَحميَ المجتمع السُّودانيَّ من هدف الكِيان الصِّهيونيِّ المرتبط باختراق المجتمع السُّودانيِّ بالتَّطبيع الشَّعبيِّ على المستويات الاجتماعيَّة والثقافيَّة والفنيَّة والرِّياضيَّة والتِّجاريَّة، ونكشِفُ خُطُورة هذا الاتِّجاه على ثقافتنا وقِيَمِنا ووَحْدتِنا ومستقبلِ أبنائنا.