- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/weekly -

السياسة الخارجية الأميركية.. بين الإنعزال والتدخل

فهد سليمان / نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
الإنكفاء النسبي
1921-1933
1-■ الرؤساء الثلاثة «الجمهوريون» (1921-1933) الذين دخلوا البيت الأبيض بعد ويلسون «الديمقراطي»، مثلوا الاتجاه القومي المحافظ في السياسة الخارجية الأميركية («أميركا أولاً»)، ما عنى: التركيز على التوسع الإقتصادي في العالم، وما يساعد على استمراره. ومن هنا، الإهتمام بمباحثات الحد من التسلح في البحار، ونبذ الحرب؛ وبالمقابل، الاستمرار في تجنب التدخل في السياسة الدولية، بما فيه الإبتعاد عن عصبة الأمم، وحتى عن محكمة العدل الدولية، أي باختصار: الانفتاح الإقتصادي على العالم، مع أقل قدر من التدخل السياسي في شئونه، وعدم التورط في صراعاته.
■ غير أن القوة المتعاظمة للولايات المتحدة، معطوفة على صلة الإقتصادي – موضوعياً – بالسياسي؛ والصراعات السياسية الكبرى الدائرة رحاها في العالم، من أوروبا إلى الشرق الأقصى، (خاصة بعد صعود الإمبريالية اليابانية)، التي دخلت على خطها الأزمة الإقتصادية – المالية الكبرى (1929-1933) من وول ستريت إبتداء، وصولاً إلى كل زوايا العالم الرأسمالي… هذه التطورات وغيرها، كانت تدفع باتجاه مغادرة الولايات المتحدة لسياسة النأي بالنفس عن الساحة الدولية، أو – الأدق – كانت تدفع نحو المزيد من الإنخراط فيها، لأن الوضع الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى، والمكانة التي باتت تحتلها الولايات المتحدة في المعادلات الدولية، لم يعد يسمح لها – ولم يكن من مصلحتها أصلاً – أن تنعزل عن مجرياتها، كما كان الحال حتى عشية الإنعطافة النوعية التي طرأت على السياسة الخارجية إبّان رئاسة ماكينلي.
الظرف الموضوعي، إذن، كان يستدعي الخروج من حالة الإنكفاء النسبي، لا بل الإرادوي، عن التعاطي الأوسع مع الشأن الدولي، وبالتالي تجنب الأسلوب الإنتقائي في التعامل مع مندرجاته، بالتركيز على قضايا محددة، وإهمال أخرى.
2-■ جمعت السياسة الخارجية للرئيس وارين هاردينغ- Warren Harding (1921-1923) ما بين البراغماتية، وبين النزعة المحافظة في السياسة الدولية، فمزجت ما بين تطوير العلاقات الإقتصادية الخارجية، والإبتعاد عن عصبة الأمم، وبين المحادثات مع القوى العظمى، أو مع الدول المؤثرة، بغرض استقرار الحالة الدولية. وفي هذا الإطار، تم إيلاء اهتمام خاص لاتفاقيات السلام بين أعداء الأمس، والوضع الاقتصادي في الشرق الأقصى، بما فيه العلاقة المعقدة مع اليابان.
■ تمثل أهم حدث في السياسة الخارجية في تلك الفترة، بافتتاح «مؤتمر القوى التسع» بواشنطن (12/1921) بمشاركة: الولايات المتحدة + بلجيكا + المملكة المتحدة (بريطانيا) + الصين + فرنسا + إيطاليا + هولندا + البرتغال + اليابان. وقد بحث المؤتمر بالسبل الآيلة إلى تهدئة الأوضاع في الشرق الأقصى، في الصين ومحيطها بالتحديد، والحد من سباق التسلح في البحار، وتوصل المؤتمر في العام 1922 إلى قرار يؤكد على سيادة الصين على كامل أراضيها، وعدم جواز انتهاك حدودها. وفي سياق أعمال هذا المؤتمر انعقد مؤتمران: 1- «مؤتمر القوى الأربع» (الولايات المتحدة + بريطانيا + فرنسا + اليابان)، الذي خرج بضمانات متبادلة بين هذه الدول، بعدم جواز وقوع انتهاكات فيما بينها في نطاق المحيط الهاديء؛ 2- «مؤتمر القوى الخمس» (الـ 4 أعلاه + إيطاليا) في شباط (فبراير)1922، حيث تم الإتفاق على الحد من التسلح في البحار.
3-■ تزامنت رئاسة كالفين كولريدج– Calvin Coolridge (1923-1929) مع بلوغ تطور الإقتصاد الأميركي ذروته في عشرينيات ق 20، فكان بإمكان السياسة الخارجية أن تستند إلى المكانة الصناعية والمالية المتقدمة عالمياً لبلادها، حيث بلغت الإستثمارات الأميركية في الخارج (ومركز ثقلها في أوروبا، كندا، واللاتينية)، رقماً قياسياً، كاد أن يساوي استثمارات بريطانيا التي تحتل الموقع الأول في هذا المضمار. وعليه، تابع كولريدج السياسة الدولية المحافظة لسلفه، فتوصل بين عامي 1923 و1926 إلى اتفاق لتسوية ديون الحرب العالمية الأولى (التعويضات)، وبمساهمة بنوك أميركية، بين مختلف المعنيين (بريطانيا، فرنسا + 11 دولة أخرى). ولعل الإنجاز الأهم للسياسة الخارجية لإدارة كولريدج، تمثل في «معاهدة نبذ الحرب» (1928) الأميركية – الفرنسية التي انضم إليها 60 بلداً، تعهدوا التخلي عن الحرب كأداة في سياسة دولهم، ما أسهم – لفترة مؤقتة – في تهدئة الوضع الدولي.
■ في اللاتينية، واصل كولريدج تقليد السياسة التدخلية في أميركا الوسطى والبحر الكاريبي، حيث تم إنزال قوات المارينز في نيكاراغوا (1926)، علماً أنه كان قد أنهى السيطرة العسكرية في جمهورية الدومينيكان قبل سنتين (1924). وفي العام 1926 مارست الخارجية الأميركية ضغطاً كثيفاً على المكسيك، من أجل تغيير قوانين تملك الأراضي واستثمار النفط، التي اعتبرتها بولشفية(!)، لكنها تمكنت – بالنتيجة – من تحقيق تسوية مع الحكومة المكسيكية عام 1928.
4-■ تأثرت السياسة الخارجية لإدارة هيربرت هوفر – Herbert Hoover (1929-1933) بالأزمة الإقتصادية الكبرى التي انطلقت من وول ستريت في تشرين الأول (أكتوبر) 1929، وبتراجع وضع الولايات المتحدة دولياً؛ لكنه – بالأساس – تابع سياسة سلفيه، فحافظ على موقف عدم المشاركة في عصبة الأمم، وعدم الإعتراف بالإتحاد السوفييتي، وكان يؤمن بالتعاون الدولي، وبتضافر الجهود من أجل السلم العالمي.
في موضوع نزع السلاح، حقق هوفر في «مؤتمر الأسطول» بلندن (1930) تسوية، قضت بتقليص حمولة السفن الحربية، لكن هذه التسوية لم تدم طويلاً. وفي «مؤتمر نزع السلاح» بجنيف (1932)، سعى لمنع امتلاك الجيوش أسلحة هجومية، وتقليص ملاكها إلى ثلث عديدها، دون نتيجة تذكر.
■ سعى هوفر لتحسين العلاقة مع اللاتينية، وإزالة الإرتياب بنوايا الولايات المتحدة، وعدم الثقة بسياستها، وتفعيل العمل المشترك في القضايا الثقافية، ووقف سياسة التدخل العسكري. وفي هذا الإطار سحب المارينز قبل نهاية ولايته من نيكاراغوا، إلى جانب التحضير لخطوة مماثلة في هايتي.
■ في الشرق الأقصى، وبناء على انتهاك اليابان للإتفاقيات الموقعة بعدم المساس بسيادة الصين وسلامة أراضيها، إبّان أزمة مندشوريا (1931-1932)، طبقت الإدارة الأميركية في 7/1/1932 «عقيدة هوفر – ستيمسون» القاضية بعدم الإعتراف بأي توسع إقليمي تجربة اليابان بالطرق العسكرية. وبالنتيجة، بقيت الأهداف التي حددها هوفر في سنوات الأزمة بمعظمها بلا تأثير، وفشلت في منع تدهور وضع الولايات المتحدة عالمياً■
الخروج النهائي من الانعزال
1933-1945
1-■ في فترة رئاسة فرنكلين روزفلت- (FDR) Franklin Roosvelt (1933-1945)، انتقل مفهوم التدخلية إلى حقل السياسة الداخلية، بعد أن كان استخدامه يقتصر على حقل السياسة الخارجية. وعليه، اكتسى مفهوم التدخلية بعداً جديداً تمثل بتوسيع دور الحكومة، كما لم يكن فيما مضى، في القضايا الإقتصادية والإجتماعية، وما يحيط بهما. هذا ما عكسه برنامج روزفلت: «العقد الجديد»- The New Deal، بمضمون العقد الإجتماعي بين الدولة ورأس المال والمجتمع، الذي يوسع دور الدولة في إدارة الشأن العام، أي «دولة أكثر» بحسب المصطلح الشائع، ما أدى إلى تعاظم دور المستوى التنفيذي، وبخاصة مؤسسة الرئاسة في حكم البلاد.
■ هذا الدور استدعته أزمة الرأسمالية الكبرى في مرحلتها الإحتكارية التي انفجرت عام 1929 في الولايات المتحدة، وانداحت بتداعياتها على العالم الغربي بأسره، ما جعل الدوائر المعنية، ومراكز القرار، تدرك الحاجة الموضوعية إلى دور جديد، تدخلي، تلعبه الدولة في معالجة الخلل المتأصل في بنية النظام الرأسمالي الذي يهدد بتدميره، وفي استعادة التوازن الإقتصادي للنظام الرأسمالي، وتأمين استمراره.
■ آلية المنافسة بين الإحتكارات بمستوى الحِدَّة الذي بلغته، باتت تتطلب وجود جهة تنظم هذه المنافسة، تشكل حَكَماً بين أقطابها ومختلف احتكاراتها، دون أن تعبِّر عن مصلحة احتكار بعينه، بل هي ترعى المصلحة العليا لرأس المال، وتعمل ضابطاً ينظم العلاقة بين مختلف الأطراف، هذه الجهة هي الدولة المتسيِّدة فوق تناقضات مختلف المجاميع، والمتسلحة – موضوعياً – بالرؤية الأبعد، الرؤية الضامنة للمصلحة النهائية للرأسمالية الإحتكارية.
2-■ في السياسة الخارجية، أدرك روزفلت، في وقت مبكر، مخاطر صعود النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، والعسكريتاريا التوسعية في اليابان؛ وكان يرى، وهو يراقب نُذُر الحرب وهي تتجمع في أوروبا والشرق الأقصى، أن الموقع الطبيعي للولايات المتحدة هو في صف الدول المناوئة لدول المحور (ألمانيا + إيطاليا + اليابان..)؛ لكنه كان يدرك مدى تجذر المزاج الإنعزالي في بلاده، ذلك المزاج الدافع – تحت كل الظروف – للبقاء بعيداً عن الحرب المقبلة، وفي موقع آمن خلف حدود المحيطين. وقد عكس الكونجرس بدقة هذا المزاج بإصدار ما سمي بـ«قوانين الحياد» بين عامي 1935 و1937.
■ خاض روزفلت معركة سياسية متعددة الأوجه لإقناع مواطنيه بخطورة الإنعزال عن العالم، لأن أمن ورفاه البلاد يرتبطان بأمن أوروبا وآسيا، والإخلال بميزان القوى في أوروبا، ناهيك عن انتصار دول المحور، ستترتب عليه نتائج وخيمة على الولايات المتحدة في عالم واحد مترابط الحلقات، تحكمه قاعدة التأثر والتأثير المتبادل بين مختلف مكوناته. وعليه، لا تصان المصلحة الوطنية إلا من خلال الحفاظ على السلام العالمي، وتوفير شروط استمرار الإقتصاد الحر، وضمان حق تقرير المصير للشعوب، واحترام مباديء الأمن الجماعي، الخ..
■ بنتيجة هذه الجهود التي استهدفت وعي المواطنين، استطاع روزفلت بعد اندلاع الحرب عام 1939، وبشكل رئيسي، بفعل الصدمة الذي أحدثها إعتداء اليابان على القاعدة البحرية في بيرل هاربر عام 1941، أن يتجاوز تأثير تيار الإنعزال، وانتقل بالمزاج العام إلى حالة تدخلية هجومية، انتقلت بالولايات المتحدة – بعد تحقيق الإنتصار- إلى مصاف الدول العظمى.
■ بعد الحرب العالمية الثانية، كانت قوة الولايات المتحدة، عسكرياً، اقتصادياً، مالياً، علمياً، وثقافياً، قد بلغت درجة، جعلت من المستحيل على أي دينامية إنكفائية أن تعيدها إلى حدودها وراء المحيطين . لقد باتت الولايات المتحدة زعيمة «العالم الحر» بلا منازع، والقطب الآخر المواجه للإتحاد السوفييتي، ما جعل التدخلية سمة ثابتة، متأصلة، وملازمة لسياستها الخارجية طيلة فترة «الحرب الباردة»، وكذلك في الفترة التي أعقبتها، أي فترة هيمنة القطب الواحد، وحتى يومنا. قد تكتسي هذه السياسة التدخلية أكثر من شكل، وتتبع أكثر من أسلوب، تبعاً لأولويات سياسة الإدارة المقيمة في البيت الأبيض وتقديراتها، لكنها لا تغير شيئاً من طبيعتها، ولا من جوهرها القائم على التدخلية الملازمة عضوياً للعولمة■