| نشر في مايو 10, 2017 10:47 ص | القسم: آخر الأخبار, آراء ومقالات | نسخة للطباعة :
د. مصطفى علوي- القاهرة
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع تقدم عملية بناء الاتحاد الأوروبي، منذ أوائل عقد الخمسينيات من القرن الماضي، ومع صعود الولايات المتحدة الأمريكية لقمة العالم الغربي، وانتهاء واختفاء النازية في ألمانيا، والتطرف الحاد في إيطاليا -مع كل ذلك وبسببه، ظهرت أوروبا جديدة لا تعرف التطرف، ولا حتي التشدد، بل أصبحت هناك خريطة سياسية جديدة في أوروبا تقوم علي اللاتطرف، بل يمكن القول إنها لا تعرف التشدد الأيديولوجي.
ولكن سرعان ما بدأت تلك الخريطة الجديدة في التغير، وفتحت صفحات جديدة من أيديولوجيات التطرف والتشدد، ولكن ليس علي أساس وطني، أو قومي، وإنما علي أساس عالمي، وتمثل ذلك بالأساس في المواجهة السياسية والأيديولوجية الحادة فيما بين الشيوعية والرأسمالية، وهي المواجهة التي عبر عنها الصراع بين حلفي شمال الأطلنطي (الناتو)، ووارسو، خاصة منذ نشأة هذا الأخير في عام 1955، وحتي عام 1989، عندما انهار حائط برلين، ثم عام 1990 الذي انهار فيه حلف وارسو، ثم، وهذا هو الأهم، عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفيتي السابق، وكانت تلك هي نهاية تلك المرحلة من التطرف الأيديولوجي غير المسبوق.
وخلال تلك المرحلة الممتدة من عام 1945 إلي ديسمبر من عام 1991، كانت ثمة مواجهة سياسية أيديولوجية شاملة بين غرب أوروبا وشرقها، وبين «عالم الغرب الرأسمالي» وعالم الشرق الشيوعي أو الاشتراكي، وحدث ذلك حتي انهيار الكيان السوفيتي الذي كان يقود شرق أوروبا. وخلال تلك المرحلة، لم يكن هناك يمين متطرف في أوروبا، ولكنه كان يمينا أيديولوجيا تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن قائما علي أحزاب سياسية يمينية متطرفة كتلك التي نشاهدها الآن، ونحاول دراستها في هذه الورقة.
وكان طبيعيا في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق والكيان الاشتراكي العالمي، من حيث نطاقه الجغرافي والايديولوجي ان يتمدد اليمين السياسي، خاصة في القارة الاوروبية، وذلك لأن دول الكتلة السوفييتية السابقة كانت بالاساس في تلك القارة، وان كان بعض كياناتها قد تحول الى دول مستقلة ايضا في القارة الآسيوية. وكان من أهم العلامات الدالة على ذلك تحول دول شرق اوروبا الشيوعية، او الاشتراكية السابقة، الى دول وطنية تقوم بالاساس على تعددية احزابها وقواها السياسية، وتكثف خبراتها السياسية الجديدة، خصوصا مع الاطار الديمقراطي الجديد لهذه الدول، مثل المجر وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وصربيا. ومعنى ذلك ان عدد الاحزاب السياسية، خاصة اليمينية منها، قد زاد بمعدلات عالية في العالم ككل، وفي اوروبا بشكل خاص.
وتتبنى احزاب اليمين المتطرف في اوروبا سياسات متشددة او متطرفة ضد الآخر، ولذا فان هذه الاحزاب تتخذ موقعا صارما ضد الهجرة، لأنها ستأتي له ولبلده بمهاجرين من خارج السياق. كذلك تنتقد احزاب اليمين المتطرف في اوروبا سياسيا الديمقراطية الاجتماعية لقوى واحزاب اليسار وتشجع الفردية كبديل. وهذا اليمين المتطرف يقف ضد الاندماج الاوروبي ويدعو لتقليص الضرائب ولشديد عقوبات الجراءم ويرفض سياسات حماية البيئة.
وثمة ارتباط بين صعود اليمين المتطرف في البلاد الاوروبية والازمة الاقتصادية التي تواجهها اوروبا والعالم وفي ذلك السياق ايضا يعبر اصحاب التيار اليميني المتطرف في اوروبا عن قلقهم من الاسلام السياسي، وبما يمثله لهم من خطر وتهديد حقيقي للهوية الاوروبية، فهم يرون ان الاسلام هو العدو الاول لوروبا والعالم أجمع، فهو مصدر لتهديد اوروبا وهو ضد الحضارة الغربية وهو يهدد الثقافة الاوروبية والاسلام لديهم يشبه الفاشية.
وقد تمثل أهم وابرز ملامح صعود الاحزاب اليمينية المتطرفة في اوروبا في المرحلة الحالية فيما حققت بالفوز ببعض مقاعد البرلمانات الوطنية. والبرلمان الاوروبي بل وانتخابات الرئاسة في بعض هذه البلاد الاوروبية. ولم يتوقف الأمر عند حدود دولة واحدة او اثنتين او ثلاث. بل امتد ليشمل نتائج ايجابية طيبة في الانتخابات المشار اليها في السطور اليابقة. وفي الانتخابات المحلية والبرلمانية بل والرئاسية في كل من السويد والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية وفرنسا والنمسا وهولندا وسويسرا والدنمارك. ومعنى ذلك ان هذه الظاهرة امتدت لتشمل غرب اوروبا وشماب اوروبا ووسط اوروبا وفي الانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمع عقدها هذا العام 2017 يتوقع البعض فوز مارين لوبان ممثلة اليمين المتشدد في فرنسا.
وهناك عوامل عديدة وراء صعود احزاب اليمين المتطرف في اوروبا في السنوات الاخيرة ومنها عوامل ذات صلة بالتطورات الداخلية وتطور الخريطة الحزبية والاوضاع الاقتصادية الاجتماعية داخل الدول الاوروبية، وعوامل اخرى ترتبط بالاوضاع الخارجية التي اصبحت القارة الاوروبية جزءا منها.
وهناك اسباب وعوامل اقتصادية واخرى سياسية أمنية أدت الى أزمة في الحياة العامة في بلاد القارة الاوروبية وهو ما أثر في الخريطة الحزبية.
حيث ان عملية التأزيم تلك أثرت في خريطة الحياة السياسية في اتجاه أدى الى تغييرها بشكل يخدم الاحزاب اليمينية المتطرفة التي تمكنت من الحصول على وضع سياسي لم يكن متاحا من قبل حدوث تلك الأزمات.
وفي السنوات الخمس الاخيرة هبط معدل النمو الاقتصادي السنوي في بلاد الاتحاد الاوروبي بمعدلات كبيرة وملحوظة. وفي الوقت نفسه ارتفع معدل البطالة في كثير من تلك الدول على نحو لم تشهده من قبل حدث ذلك في الوقت الذي ضعفت فيه خطط الاصلاح الاقتصادي والتقشف الاقتصادي التي اتبعتها الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي.
وفي الوقت نفسه، أدى الربيع العربي الى حركة هجرة غير شرعية ضخمة للغاية وصلت في حالة سوريا وحدها الى عدة ملايين وبما يقرب من ربع او ثلث اجمالي عدد سكانها الى عدد من الدول الاوروبية، وهو ما مثل تحديا او تهديدا للدول التي اتجهت اليها حركة الهجرة الضخمة وغير المسبوقة على مستوى العلاقات العربية – الاوروبية، وامتدت حركة الهجرة الى دول اوروبية اخرى كثيرة، وان كان التركيز على دول اوروبية فضلها المهاجرون، او تمنوا اللجوء اليها. وقد أدى تزايد اعداد المهاجرين واللاجئين المسلمين في الدول الاوروبية. خاصة الكبيرة سكانيا وجغرافيا، مثل المانيا وفرنسا الى تضاعف المشكلات والأزمات التي تحدث بسبب تلك المشكلات فيما بين سكان البلد الواحد على نحو يمثل ازمة استراتيجية فيما بين الطرفين، وهو ما يؤدي في النهاية الى تفاقم وضع الخريطة السياسية لهذا البلد او ذاك من بلاد اوروبا، خاصة في علاقاتها مع دول المصدر ومعظمها عربية اسلامية، ويساعد ذلك على ازدياد حدة المشكلة التي تقوم بين الاحزاب اليمينية الاوروبية المتطرفة وسكان تلك البلاد من المهاجرين العرب المسلمين.
ويزيد الوضع خطورة مع حدوث مواجهات او ضربات ارهابية داخل دول اوروبية معينة في السنوات القليلة الماضية. خاصة فرنسا. وهذه الاحداث الارهابية التي وقعت في بلاد اوروبية تعزز من الرؤى السائدة اصلا داخل اوروبا عن الارهاب العربي او الاسلامي وخطورته على مصالح الأمن القومي لتلك الدول الاوروبية خصوصا ان الطرفين العربي والاوروبي لم ينجحا بعد بشكل كبير او ملحوظ في بناء تحالف دولي فاعل ضد الارهاب.
وهذه الاوضاع جميعها تعطي قوة للخطاب اليميني المتشدد او المتطرف الذي تستخدمه دول القارة الاوروبية او القوى المتطرفة في ذلك التيار بما سيزيد من فرصها في الحصول على مزيد من القوة والنفوذ السياسيين واستثمار ذلك سياسيا حتى في لعبة السياسات المحلية داخل كل من تلك الدول.
واذا كان التطرف اليميني قد ظهر بوضوح قبل تصاعد موجات الهجرة غير الشرعية من بلاد عربية واسلامية فان حدوث ذلك الأمر وتزايد حركات تلك الهجرة يؤديان الى مزيد من التطرف الذي ظهر في أفكار وبرامج احزاب اليمين القةمي ومن ثم في وجود وتأثير متناميين لذلك التيار حتى في الدول الاوروبية التي كانت تاريخيا الأكثر تعبيرا عن الديمقراطية الليبرالية والبعيدة عن التطرف اليميني مثل سويسرا التي صعدت فيها الافكار المتطرفة بشكل كبير في السنوات الاخيرة وفرنسا التي ستخوض هذا العام 2017 انتخابات رئاسية قد تسفر عن فوز ماري لوبان وهذا وذاك يقويان رموز وتيارات الفكر السياسي الاوروبي اليميني المتطرف، ويزيدانه قوة في حركته الرامية الى السيطرة على المسرح السياسي في العديد من البلاد الاوروبية. وذلك امر يؤدي الى نجاحات ومكاسب سياسية كبيرة لليمين المتطرف في القارة الاوروبية. ويزيد من فرص حدوث ذلك ان قوى واحزاب اليمين التقليدي تستخدم في مواجهة اليمين القومي المتطرف فكرا تقليديا يقوم على تجاهل تلك القوى او استخدام آراء او أفكار محدودة تقوم على تجاهلها لليمين القومي المتطرف، ان قوى اليمين التقليدي لم تنجح في اوروبا حتى الآن في مجابهة اليمين القومي المتطرف وهو ما يزيد من قدرات هذه الاخيرة على نحو يجعلها اقوى وأكثر فعالية في المرحلتين الحالية والمقبلة. ان القوى السياسية الاخرى في البلاد الاوروبية ستكون في المرحلتين الحالية والمقبلة في مزيد من الحاجة الى أفكار وتحركات افضلاذا ارادت ان تكون اكثر بروزا في الخريطة السياسية ومن ثم يكون لها اثر واضح يدفع بها الى الامام في تفاعلها مع قوى اليمين القومي المتطرف.
وثمة احتمالات نظرية فيما يتعلق بوضع ومكانة قوى اليمين المتطرف في خريطة الحياة السياسية في بلدان القارة الاوروبية فعلى المستوى النظري يتمثل الاحتمال الأول في سيطرة قوى اليمين المتطرف او – على الأقل – وجوده بشكل ملحوظ في بنية السلطة في بلاد الاتحاد الاوروي، وهو ما سيعني ان حدث، تغيرا جوهريا يجب رصده، والاحتمال الثاني ان تنجح قوى اليمين التقليدي غير المتطرف في الانتخابات البرلمانية ومن ثم تسيطر على عملية الحكم. اما السيناريو الثالث فهو ان تصعد الاحزاب اليمينية المتطرفة في عدد من الدول الاوروبية مقابل تراجعها في دول اخرى او ان يوجد التياران معا في السلطة في تلك الدول.
أبريل 17, 2024 0
أبريل 17, 2024 0
أبريل 17, 2024 0
أبريل 17, 2024 0
Sorry. No data so far.