- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/weekly -

الدولة المدنية … الاردن بين أعوام 1967 – 1989

عبلة محمود ابو علبة
الأمين الاول لحزب الشعب الديمقراطي الاردني / حشد
الفحيص – الأحد 4/12/2016
مداخلة ألقيت في نادي شباب الفحيص

هزيمة حزيران عام 1967م، عززت الدور العنصري لدولة الاحتلال وكشفت بجلاء عن مشروعها الإحلالي والمخاطر التي يشكلها وجود مثل هذه الدولة المحتلة لأرض فلسطين على الدول العربية جميعها وتحديدا المحيطة بفلسطين المحتلة وستبقى هذه الحقيقة المرّة قائمة ما دامت دولة الاحتلال موجودة، وتشكل مخاطر ليس فقط على وجود الدول العربية الاخرى ولكنها شكلت ولا تزال تهديدا مباشرا للمنحى الطبيعي للتطور التاريخي والحضاري لمجتمعات هذه البلدان.
الاردن أكثر البلدان العربية تأثرا بهذا الوضع الاستثنائي:
ــ فقد فرضت الأحكام العرفية بعد الاحتلال عام 1967 وتعطل العمل بالدستور وتوقف انتخاب الهيئة التشريعية، ودخلت البلاد مرحلة تاريخية جديدة مليئة بالمتناقضات بين الحقائق والانهيارات التي أدت اليها الهزيمة وبين النزعات التحررية والتقدمية في المجتمع الاردني نفسه.
اتوقف هنا عند المحطات التالية البارزة كمؤشرات على أوضاع المؤسسات المدنية والدستور والبرلمان في الفترة ما بين 1967 – 1989.
1 – تعديل الدستور الاردني وعلاقته بالبرلمان
بعد عام 1967م، وقع أول تعديل على الدستور الاردني عام 1973م والثاني كان عام 1974 والثالث عام 1976م والرابع عام 1984م.
وجميع التعديلات كانت تخص البرلمان الاردني التاسع المنتخب في 18 نيسان عام 1967 اي قبيل الاحتلال بقليل. “وذلك لملء المقاعد النيابية الشاغرة او اضافة صلاحيات للملك بتأجيل الانتخابات “لظروف قاهرة” او دعوة مجلس النواب السابق للانعقاد في دورة استثنائية او إعادة المجلس المنحل ودعوته للانعقاد وانتخاب نصف اعضاء مجلس النواب”.
ولم تتطرق التعديلات الدستورية للأوضاع الجديدة الاخرى الناشئة بعد الاحتلال وموجباتها على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
استمرت حالة عدم الاستقرار السياسي التي عكست نفسها في التعديلات الدستورية وكذلك في وضع مجلس الامة المنتخب حتى عام 1989 عندما جرت أول انتخابات شاملة للمجلس الحادي عشر، واعتمدت الانتخابات التكميلية للمقاعد الشاغرة عام 1984 رسميا كما اعتبر المجلس النيابي في ذلك الوقت بالمجلس العاشر.
أدى تعطل السلطة التشريعية طوال تلك الفترة بالضرورة الى ان تتولى السلطة التنفيذية اصدار القوانين بدون رقابة برلمانية او شعبية / بسبب استمرار منع الاحزاب والتضييق على المؤسسات المدنية والاحكام العرفية. ومن الطبيعي والحالة هذه ان تشهد الحركة الجماهيرية وحركة مؤسسات المجتمع المدني تراجعا كبيرا يشبه الحصار ولكنه لم يصل حد الالغاء.
* من المهم الاشارة هنا الى ان ديناميكيات الحياة السياسية استمرت في التعاطي مع المستجدات: مثل مشاركة الاردن في القرار العربي عام 1974 في قمة الرباط ثم قرار فك الارتباط عام 1988، الا ان هذه الحالة الدينامية اقتصرت على القرارات السياسية من قبل السلطة التنفيذية ولم تعكس نفسها على الدستور ولا على القوانين المنظمة للحياة الاجتماعية والسياسية… فالقوانين لم تشهد تحديثات لمواكبة متطلبات الحياة الديمقراطية المجتمعية، “الاشارة هنا الى قانون الجمعيات الخيرية وقانون الاجتماعات العامة وقانون العقوبات…الخ”.
فالهوية المدنية للمجتمع موقوفة ومحاصرة رغم الاعتراف الرسمي – النظري – بها او وجودها بحكم الأمر الواقع…
2 – السلطة التنفيذية
تشكلت بين أعوام 1967 – 1989، 23 حكومة، وتعاقب عليها ثلاثة عشر رئيسا، بعضهم تولى رئاسة الحكومة لأربع دورات.
الا ان الاستننتاج الرئيسي المتعلق بهذا الموضوع يتصل بتوجهات الحكم نحو توسيع القواعد الاجتماعية المؤيدة له من خلال شمول الوزارات لرموز عائلية وعشائرية لم تكن سابقا في الحكم…
الملاحظة الأساسية هنا، هي ان الحكم لجأ الى تبني هذه الاستراتيجية من خلال استيعاب قوى اجتماعية في مؤسسات الحكم والادارة العامة وأجهزة الأمن، وليس من خلال احياء المؤسسات المدنية والتمثيلية او تبني استراتيجيات التنمية الاقتصادية والشاملة، حيث تضخمت ظواهر الفساد الاداري والمالي واحتكار السلطة واقصاء القوى المعارضة وتدهور الاوضاع المعيشية للمواطنين، وشكلت كل هذه السياسات وتفاعلاتها مقدمات للانفجارات الشعبية التي وقعت أواخر الثمانينات.
3 – الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني
من المعروف ان الأحزاب السياسية الاردنية بدأ نشوئها في أوائل العشرينات من القرن الماضي، وواصلت عملها وازدهرت في منتصف الخمسينات على ايقاع حالة النهوض القومي العربي والمراحل التي شهدت بناء الدولة الوطنية بعد زوال الاستعمار.
فما الذي حل بالاحزاب السياسية بعد صدور قانون وقف العمل بالأحزاب السياسية وفرض الأحكام الاستثنائية في البلاد عام 1957؟…
لم تتوقف الاحزاب السياسية عن العمل وجميعها نشأت في أوائل الخمسينات:
الحزب الشيوعي الاردني 1951.
حركة القوميين العرب 1952
حزب البعث العربي الاشتراكي 1952
الجبهة الوطنية الاردنية 1954
فقد استمدت الاحزاب اليسارية والقومية عمقها السياسي في ذلك الوقت من المنظومة الاشتراكية التي كانت تشكل احد اقطاب التوازن الدولي ومن الانظمة القومية العربية الحاكمة، ولكن اللافت للنظر ان برامج الاحزاب واتجاهات عملها في تلك الفترة ركزت بصورة أساسية على الجوانب التنويرية الثقافية والسياسات التقدمية والقضايا الوطنية والقومية العامة التي فرضت نفسها على الواقع العربي، أما القضايا الاجتماعية الداخلية ذات الطابع الحداثي.. والمدني فقد تباينت الاحزاب في مستوى تناولها ومعالجتها في برامجها او في حياتها النضالية اليومية، كما عوملت المؤسسات المدنية التمثيلية المرتبطة بها، من قبل نظام الحكم تماما كما جرى التعامل مع الاحزاب: مطاردة، واجراءات حلّ وتضييق، كما وقع في مؤسسات المرأة والطلبة والمعلمين (عام 1957) وما بعده.
صحيح ان الاحزاب السياسية ظلت قائمة وتعمل وفق ظروف سرية وغير مشروعة، الا انها لم تتمكن أبدا من بناء قواعد اجتماعية واسعة وشنّت عليها الجهات الرسمية حملات دعاوية مضادة لا زالت حتى يومنا.
* حالة الصراع التي كانت قائمة بين نظام الحكم والاحزاب السياسية تم التعبير عنها ليس فقط باجراءات القمع من قبل الجهات الرسمية ولكن الصراع كان يدور بين مشروعين غير متكافئين:
ــ فقد تبنت الاحزاب المشار اليها برنامج الدفاع عن قضايا وطنية عديدة سياسية واجتماعية وثقافية من منظور ديمقراطي تقدمي.. ذي صلة بالحريات العامة والمساواة والعدالة اضافة الى النضال المستمر من أجل تأسيس منظمات تمثيلية للقطاعات المختلفة… وذلك في مواجهة انحسار الحريات، وتراجع الاقتصاد الوطني ومحاصرة الاحزاب والمؤسسات.
يتوجب علينا ونحن نناقش هذا الموضوع ان نشير بالفعل الى الدور الهام التنويري والتقدمي الذي قامت به الاحزاب السياسية التعددية والديمقراطية باتجاه التأسيس لدولة المدنية وفي مواجهة الاحكام العرفية ووقف تطور الحياة المدنية… والدفاع عن حق الفئات الشعبية في تشكيل مؤسساتها والمشار اليها في ظل ظروف سياسية وانسانية قاسية، أدت فيما أدت اليه الى حصر هذه الاحزاب ضمن نخب اجتماعية قليلة تنتمي الى الفئات المتوسطة: الأكثر تعليما وثقافة.
* المؤسسات النقابية المهنية والعمالية: لم تشملها اجراءات الحل والمنع عام 1957م وظلت قائمة منذ نشوئها في أوائل الخمسينات، لا بل كان لها حضور سياسي رئيسي في الحياة العامة، وتطور دورها مع تطور النمو الاقتصادي في البلاد واتساع حجم الفئات المتوسطة ونشوء مؤسسات صناعية وشركات تجارية ونشاط حركة التعليم والتعليم العالي…الخ.
الا ان اللافت هنا وفي معرض تناول مقومات الدولة المدنية والديمقراطية التمثيلية ان النقابات المهنية التي أسهمت بدور سياسي ونقابي فعّال في الحياة العامة، لم تقدم مساهمات نوعية لتطوير الحياة الديمقراطية، فلم تتبنى مثلا مبدأ التمثيل النسبي في الانتخابات الدورية التي تجري لمجالسها، واعتمدت إما على التوافق السياسي، او احتكار سلطة النقابة… الأمر الذي راكم العديد من التجاوزات دون محاسبة ولا رقابة جديّة… كما لم تتمثل المرأة في المجالس النقابية الا نادرا جدا على الرغم من نسبتها العالية في القواعد المهنية.
هذا اضافة الى تكريس اتجاهات عمل داخل النقابات تغلب فيها الموقف السياسي – الشعبوي والعصبوي – على المهام الرئيسية للنقابات في الدفاع عن حقوق ومصالح اعضائها.. كما لم تكرس تقاليد الحوار فيما بين الفئات المختلفة فيها…
* النقابات العمالية التي تأسست منذ عام 1954 وكان أيضا للأحزاب السياسية دور رئيسي في نشوئها… تمت السيطرة عليها تماما من قبل المؤسسة الرسمية وذلك بعد عام 1970م. وسنت قوانين لانتخاباتها تحول دون وصول ممثلي القوى التقدمية الى الهيئات الادارية للنقابات… ولا زال هذا الوضع قائما حتى يومنا.
ــ رابطة الكتاب الاردنيين والاتحاد النسائي في الاردن 1974م. نشأت المؤسستان بالتزامن، وعلى رأس كل منهما كوادر سياسية تقدمية جاءت من جسم الاحزاب السياسية ذات الطابع الديمقراطي…
فعلى الرغم من سيادة الاحكام العرفية الا ان المنحى العام العربي والدولي كان آخذا في النهوض والتقدم بقوة الى الأمام وكان لهذه العوامل أثر كبير على كل من: الجهات الرسمية والمؤسسات الحزبية معا، فبعد منع طال أمده منذ عام 1974 أعيد تأسيس الاتحاد النسائي في الاردن في نفس العام الذي أقرت فيه هيئة الأمم المتحدة هذا العام عاما دوليا للمرأة وعقد أول مؤتمر دولي للمرأة عام 1975م في المكسيك حيث شاركت فيه وفود رسمية وشعبية نسائية ممثلة بالاتحاد النسائي المعاد تشكيله حديثا.
كما كان لرابطة الكتاب دور بارز في الحياة الثقافية والسياسية في البلاد وفي المؤسسات الثقافية العربية والدولية. الا ان كلا من المؤسستين تعرضتا للاغلاق والتجميد أكثر من مرة، كما طوردت كوادرها الأساسية وحوصرت انشطتها الثقافية.
ــ وفي الفترة الزمنية المشار اليها بين أعوام 1967 – 1989 منعت قطاعات الطلبة، الشباب، والمعلمين من تشكيل او احياء نقاباتهم واتحاداتهم، ووقعت مصادمات عنيفة مع جمهور الطلبة في جامعات اليرموك والاردنية تحديدا، حيث تراكمت المشكلات الطلابية بلا آفاق للحلول بسبب غياب الجهة التمثيلية والاستمرار في ملاحقة رموز الحركة الطلابية الاردنية والقيادات النقابية للمعلمين.
4 – أزمة اقتصادية حادة منذ عام 1982م
دخل الاردن مرحلة جديدة ابتداء من مطلع عام 1988 هي الأشد خطورة منذ بداية أزمة الركود المستمرة منذ عام 1982م، حيث ظهرت الى السطح تجليات الأزمة: انهيار سعر صرف الدينار واحتدام الاختلالات الهيكلية بسبب التوسع الكبير في سياسة الانفاق، وقد اغتنم القطاع الخاص المناخ الليبرالي والتسهيلات السخية التي اعطيت له من أجل اخراج رؤوس امواله الى الخارج، بينما شهدت الاسواق الداخلية ركودا كبيرا تحديدا في قطاعات التجارة والسياحة والفنادق والبناء. وشهدت الفترة نفسها تفاقما كبيرا في نسبة البطالة “حوالي 20% من القوى العاملة الاردنية”، بينما واصل كل من القطاعين العام والخاص الضغط من أجل تخفيض الأجور والرواتب، كما أقدمت على الغاء العديد من المكتسبات والحقوق المادية للعاملين مثل الزيادات السنوية والتأمينات الصحية…الخ.
وقد اضطر وزير المالية في ذلك الوقت من عام 1989م ان يعلن على الملأ ان اقتصاد البلاد يواجه اختلالات بنيوية تتمثل في: عدم التوازن في القطاعات الاقتصادية واتساع قطاع الخدمات مقارنة بقطاع الانتاج السلعي. العجز في الموازنة العامة للدولة. كبر حجم الاستيراد…الخ. وعلى الرغم من الاجراءات الحكومية التي اتخذت في ذلك الوقت من أجل معالجة الاوضاع الاقتصادية الا أن شيئا ما لم يتغير ولم يتوفر الأساس اللازم لتحرير الاقتصاد الوطني من الضغوط الخارجية وإعادة التوازن له. لا بل وقعت البلاد في مزيد من التبعية لاشتراطات صندوق النقد الدولي الذي أدى بدوره الى مزيد من تفاقم الاوضاع المعيشية.
قدمت القوى الديمقراطية في ذلك الوقت رؤية وبرنامجا وطنيا جادا للخروج من الأزمة الاقتصادية بما في ذلك المطالبة بالاصلاحات السياسية والادارية وإشاعة الديمقراطية كمتطلبات موضوعية للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة.
ولكن الأبواب كانت شبه مغلقة بين قوى المعارضة الوطنية ونظام الحكم في ذلك الوقت الأمر الذي حال دون ممارستها حقها في المشاركة القرار الوطني او حتى الحوار الجاد مع الجهات الرسمية.
ان تناول التطورات الاقتصادية والبنية المادية والتشريعية للاقتصاد الوطني يعد ركنا رئيسيا من أركان الدولة المدنية، نظرا لصلة هذا الموضوع بالعدالة وتوزيع الثروة والمشاركة في القرار وعدم التمييز بين المواطنين وحق الجميع في العيش بكرامة.
من ناحية اخرى فقد أدت الأمة لاقتصادية بتبعاتها الى خلخلة اجتماعية واسعة مسّت بشكل رئيسي فئات الطبقة الوسطى كما مست بالتراجع اركان رئيسية يفترض ان تتحمل مسؤولياتها الدولة المركزية: مثل التعليم والصحة والعمل والضمانات الحياتية الاخرى…
فقد تعرضت شرائح واسعة من الطبقة الوسطى للتآكل وفقدان الوظائف والامتيازات / وهي الفئات التي رفدت المؤسسات المدنية تاريخيا بالكوادر القيادية المتقدمة، كما تشكل هذه الفئات القاعدة الاجتماعية الرئيسية للحياة المدنية ومؤسساتها التمثيلية…
هذه المتغيرات أسهمت ولا شك في نضوب هذا المصدر والخزان الثمين الهام للقوى السياسية والمؤسسات المدنية إجمالا وأدى كل ذلك الى إضعافها وتراجع دور المؤسسات الحزبية والمدنية الاخرى التي تشكل فضاءاتها الاجتماعية الأرحب.