- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/weekly -

أين يكمن التهديد الرئيسي للهيمنة المالية الأميركية على العالم؟ / خالد عطا


باحث في الشؤون الاقتصادية-
نشرت المقالة في مجلة الحرية

كان من أهم نتائج الحرب العالمية الثانية انعقاد الهيمنة المالية لأمريكا، متمثلة في القرارات الصادرة عن مؤتمر بريتون وودز عام 1944، الذي عقد في مدينة بريتون وودز في ولاية نيوهامبشير الأميركية، وحضره 44 دولة. وكان من أهم تلك القرارات إطلاق مؤسستين ماليتين دوليتين هما:
1 – البنك الدولي للإنشاء والتعمير.
2 – صندوق النقد الدولي.
وقد اعتبر إطلاق هاتين المؤسستين بمثابة موافقة من قبل الدول المشاركة في المؤتمر على قيادة الولايات المتحدة وهيمنتها المالية على العالم، وذلك بعد أن خرجت دول الحلفاء من الحرب العالمية الثانية وقد دُمّرت اقتصاداتها؛ جنباً إلى جنب انحسار دور الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وبدء استبدال هذا الدور بالنفوذ والهيمنة الأميركية.
السياق التاريخي
وقد حُدّد للبنك الدولي للإنشاء والتعمير في مؤتمره التأسيسي هدفان أساسيان هما:
1 – تقديم المساعدة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب في البلدان الأوروبية.
2 – العمل على تنمية البلدان الأعضاء الأكثر فقراً.
وكان أول إجراء اتخذه عند مباشرة نشاطه 1946، هو تأجيل هدفه الثاني، الخاص بتنمية البلدان الأكثر فقراً، إلى أجل غير مسمى.
ومع الزمن تمّت إضافة مؤسسات جديدة للبنك هي:
– مؤسسة التمويل الدولية: (تأسّست عام 1956).
– مؤسسة التنمية الدولية: (تأسّست عام 19960).
– مؤسسة المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار: (تأسّست عام 1966).
– الوكالة الدولية للاستثمار: (تأسّست عام 1988).
ومع إضافة هذه المؤسسات، باتت المجموعة كلها تعرف بمجموعة البنك الدولي، وصار الاسم الرسمي لها هو البنك الدولي، الذي يختصر أحياناً إلى «البنك» فقط. ويغلب على سياسات البنك في الإقراض التحيّز والخضوع للأجندة الأميركية، الاقتصادية والسياسية، إلى جانب الأعضاء الآخرين البارزين من الدول الرأسمالية.
وقد زاد البنك من تركيزه، في الفترة الأخيرة، على تخفيف حدة الفقر، (فقط التخفيف وليس محاربة الفقر)، ووضع استراتيجية لذلك، تتمثل في التركيز على تحقيق الأهداف الانمائية للألفية، التي تمّت الموافقة عليها من جانب أعضاء الأمم المتحدة عام 2000.
ومن أبرز الشخصيات التي ترأست البنك منذ عام 1946؛ الرئيس الأول له يوجين ماير، والرئيس الخامس روبرت مكنامارا، الذي كان وزير دفاع للإدارة الأمريكية واستمرت فترة رئاسته من 1968 إلى 1981، والرئيس العاشر بول وولفوفيتز، من مجموعة «المحافظين الجدد» في أميركا. وآخر رئيس هو الياباني جيم يونغ كيم من 2012 إلى 2017.
أما صندوق النقد الدولي، فيعتبر المؤسسة المركزية في النظام النقدي الدولي؛ أي نظام المدفوعات الدولية وأسعار صرف العملات، الذي يسمح بإجراء المعاملات التجارية بين البلدان المختلفة. ولتحقيق هذه الأهداف فإنه يقوم بما يلي:
– مراقبة التطورات والسياسات الاقتصادية للبلدان الأعضاء وعلى مستوى العالم.
– إقراض البلدان الأعضاء التي تمر موازين مدفوعاتها بمشكلات. وطرح أجندة خاصة بالهيكلية على مستوى إصلاح السياسات الاقتصادية، وهو ما يسمى بوصفات (شروط) الصندوق الدولي.
– تقديم المساعدة الفنية في مجال الخبرة وعمل البنوك المركزية.
اختصاص صندوق النقد الدولي
المجال الرئيس لاختصاص الصندوق هو اهتمامه بأداء الاقتصاد الكلي (Macroeconomics)، الذي يشمل الانفاق الكلي (الانفاق الاستهلاكي – الاستثماري)، الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، معدلات البطالة/ التضخم/ ميزان المدفوعات. الموازنة العامة والعجز في الموازنة ونسبته إلى الناتج/ إدارة النقد والائتمان/ سعر صرف العمولات. سياسات القطاع المصرفي.
المهم في الأمر هو اهتمامه بسياسات الهيكلة التي تؤثر في أداء الاقتصاد الكلي، وتساعد في الهيمنة على اقتصادات الدول. وأصبحت إملاءات الصندوق (أو وصفاته، التي تتمحور حول رفع الدعم الحكومي عن أسعار المواد الأساسية، بما يعني مزيداً من الإفقار للفئات الشعبية الفقيرة)، شائعة ومعروفة على نطاق واسع.
ويتم استخدام البنك والصندوق الدوليين في التأثير على التصويتات في مجلس الأمن للدول غير دائمة العضوية، وهذا جزء صغير من الجانب السياسي، ويسمى توجيه وإملاءات الدبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة.
الحالة الراهنة
منذ تأسيسهما وعلى مدى عقود، أسهم الصندوق والبنك الدوليان في توفير الغطاء الكامل لاستمرار الهيمنة الاقتصادية والمالية الأميركية وللدول الرأسمالية، في مواجهة الأزمات التي تمر بالنظام الرأسمالي، والتي كان آخرها الأزمة المالية عام 2008، التي لم تتعاف منها – حتى الآن – اقتصاديات الدول الرأسمالية.
يقول الفيلسوف جون جري John Gray في الأوبزيرفر البريطانية (29/9/2008): «أزمة عام 2008 شهدت على التداعي الأميركي وأن عصر الهيمنة الأميركية في طريقه إلى الانتهاء؛ نفس الطريق التي سلكها الاتحاد السوفيتي عندما انهار جدار برلين 1989، إن ما حدث هو أكثر من أزمة مالية وأكبر منها، الذي حدث هو تحول جيوسياسي تاريخي، لأن ميزان القوى قد تغير بشكل لا عودة عنه، فعصر القيادة العالمية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية قد وصل لنهايته».
بيد أن الغطاء الذي وفره البنك والصندوق لأمريكا أدى إلى الحقائق التالية:
أولاً: الدولار لم يتأثر بأزمة أمريكا المالية
– حصة الدولار من الاحتياطي النقدي العالمي تبلغ 62%، أساسها قاعدة الصرف التي أُقرّت في معاهدة تأسيس الصندوق، (وهي أونصة الذهب = 35 دولار)، وأن أساس المعاملات هو الدولار والخروج من قاعدة الذهب.
– محفظة المستثمرين الأجانب في سندات الخزينة الأميركية بلغت 5,6 ألف مليار دولار، وكان هذا المبلغ في عام 2000 ألف مليار دولار.
– ما زالت هناك ثقة عالمية كبيرة ومستمرة وواضحة في القيادات والمؤسسات المالية والنقدية (اللجوء إلى أمريكا نقداً أو أصولاً يعتبر لجوءاً إلى الأمن والأمان. وهذا نادر في عالم اليوم).
المثال الواضح والمعترف به عالمياً هو أن فوائض أموال الخليج العربي موجودة في أمريكا. ويقول بول كروجمان، (الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد 2008، وكان أحد المرشحين لتولي وزارة الخزانة الأميركية في فترة إدارة أوباما، لكن اليمين في الحزب الديمقراطي رفض هذا الترشيح)، في مجلة نيويورك تايمز (26/7/2012): «إن الأموال الخليجية تودع في البنوك الأميركية بدون فوائد فقط لشعورهم – الخليجيين – أنها في أمان، لأنها في أمريكا ولا يوجد أزمة سيولة نقدية».
ثانياً: الثقة ما زالت كبيرة في مؤسسة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي
تأسس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي عام 1913، والدور الرئيس الذي يقوم به هو الحفاظ على الدولار والوضع المالي الأميركي، والمثال الأبرز على ذلك هو أزمة سوق الأسهم عام 1987، والخروج منها، وكانت تسمى كارثة «وول ستريت السوداء». ويعود الفضل إلى رئيس الاحتياطي الفيدرالي آلن جرينسبين، الذي بقي في منصبه أربع ولايات انتهت في 2006، ويعتبر الحالة الاستثنائية في تاريخ الاحتياطي. وانتقلت هذه الثقة إلى برنانكي الذي استطاع الصمود والخروج من أزمة الركود التي صاحبت الأزمة المالية عام 2008، وصولاً إلى البروفسورة جانيت يلين، التي استطاعت أن تصل إلى تعافي الدولار وتقليص البطالة … الخ.
ليس الدولار هو عملة أمريكا فقط، ولكنه عملة النقد العالمي. وربما يبقى الدولار هكذا لفترة ليست بالقصيرة بسبب من غياب الخيارات الأخرى العملية والمقبولة شعبياً، والمقبولة من المؤسسات المالية النقدية العالمية: البنك والصندوق. وهذا الخيار هو من النتائج المباشرة التي ترسخت على مدى سبعين عاماً منذ مؤتمر بريتون وودز عام 1944.
ثالثاً: الخبرة النقدية لأمريكا لا مثيل لها عالمياً
هذا لا يعني أن وضع السياسات النقدية أمرٌ سهل.
– اختيار تحريك الفوائد في النسبة والاتجاه والتوقيت في غاية الصعوبة بالرغم من الخبرة الكبيرة والتجارب الفنية والتقنيات الحديثة المتوفرة.
– مهمة الرقابة المصرفية تبقى في اقتصاد معولم واسع يسمح للجميع تحقيق الفرص وتحمل المخاطر المتزايدة.
رابعاً: التحديات الكبيرة المفروضة على المؤسسات المالية الدولية
– القبول بتوسيع الدور الصيني في المؤسسات المالية الدولية القائمة، إذ أن الصين لن تقبل بالوضع الحالي واستمراره على ما هو عليه، والذي تجد فيه دولاً غربية، (مثل بريطانيا / فرنسا)، تحظى بدور اقتصادي عالمي أكبر من اقتصادات هذه الدول.
– الصين مرشحة للتفوق على أمريكا اقتصادياً قبل انتهاء العقد الحالي.
– المشكلة أن الغرب ما زال يهمل المطالب الصينية، ويراهن على متغيرات غير معروفة، وينطبق هذا ايضاً على إهمال مطالب الهند.
إذا لم تقبل أمريكا بتوسيع الدور الصيني في المؤسسات الدولية، فإن الصين ستلجأ إلى تأسيس مؤسسات دولية جديدة منافسة، ما سيؤدي إلى إضعاف الجميع.
هذا التحدي الذي لم تستجب له أمريكا والغرب، هو الذي أدى إلى تأسيس مؤسسة منافسة. وقد تحّول التحدي إلى تهديد حقيقي وجدي للهيمنة الأميركية عام 2014.
مواجهة التحدي
ويرى الخبراء أنه لم يكن أمام الصين غير خيار مواجهة التحدي الأمريكي، والسعي من أجل توسيع وإصلاح أكبر مؤسستين للإقراض المالي على مستوى العالم، اللتين أضيف لهما «البنك الآسيوي للتنمية»، الذي تأسس عام 1966 ومقره مانيلا. وينظر إلى هذه المؤسسات، في العديد من البلدان، على أنها قنوات لوزارة الخزانة الأميركية والبيت الأبيض.
ومنذ أكثر من عشر سنوات كان هناك مطالبة من المسؤولين والخبراء السياسيين والاقتصاديين من جميع أنحاء العالم بأنه بات من الضروري القيام بإصلاح هذه المؤسسات، في سياستها للإقراض المالي، حتى يمكن المحافظة على نفوذها. بمعنى أن هذه الآراء كانت ضمن البيت الرأسمالي نفسه، لكن الكونجرس الأميركي وقف ضد هذه المطالب، بما فيها سياسات أوباما للإصلاح المالي.
وكان جاك ليو، وزير الخزانة الأمريكي، قد طالب أمام لجنة الخدمات المالية التابعة للكونجرس، مشرّعي الكونجرس بسرعة التصديق على الإصلاحات المتعلقة بصندوق النقد الدولي. وأشار في شهادته إلى أهمية صندوق النقد والبنك الدوليين للمحافظة على نفوذ الولايات المتحدة الاقتصادي والسياسي في جميع أنحاء العالم، مؤكداً أن استثمارات حكومته في هذه المؤسسات تعزّز مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية.
ولكن عندما تصاب النخب السياسية، في لحظة تاريخية معينة، بالجمود الإدراكي (Cognitive rigidity)، وتصبح غير قادرة على قراءة الواقع بموضوعية، فإنها تنكر هذا الواقع وترفضه، ويترتب على ذلك إضعاف وتراجع الدولة، على الرغم من قوتها الاقتصادية، خصوصاً في ظل اشتداد المنافسة، والتحديات العالمية الجديدة وصعود قوى جديدة في العالم (الصين والهند).
إن هيمنة الولايات المتحدة الأميركية، التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية، وعدم إدراك المتغيرات والتطورات العالمية، أدى إلى أن تتم المواجهة والتحدي بما يعني ظهور قوى دولية تقوم بتهديد هذه الهيمنة.
بدايات التهديد
أولاً: مشروع طريق الحرير
التغير الأكثر أهمية كان إعلان الزعيم الصيني شي جينج عن إنشاء حزام اقتصادي (طريق الحرير) في خريف 2013، فهذا المشروع يمكنه احتواء جميع المشاريع المطروحة، إذ لا توجد قوة تستطيع أن تنافس الصين على صعيد الموارد. وقد ألقت هذه المبادرة بظلالها الثقيلة على الاتحاد الأوروبي وأمريكا.
ثانياً: تأسيس « بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية»، ظهرت الأخبار الأولية عن هذا البنك عن الحكومة الصينية في تشرين الأول/ أكتوبر 2013. استناداً إلى تقرير نشر من البنك الآسيوي للتنمية.
ويشير التقرير الصادر عن ««The Asian Development Bank Institute (2010)، إلى حاجة القارة الآسيوية إلى استثمارات في البنية التحتية بقيمة 8 تريليون دولار ما بين عامي 2010 و2020، في حين لا يستطيع بنك التنمية الآسيوي تأمين أكثر من 10 مليار دولار سنوياً، وفي أحسن الأحوال، فإن البنك الدولي وبنك الاستثمار الآسيوي يمكن أن يؤمنّا 30 مليار سنوياً، واستناداً إلى هذه المعطيات نستطيع أن نقول:
– التمويل غير كاف من بنك التنمية الآسيوي ومركزه مانيلا.
– واقع التمويل من البنك الدولي لآسيا يشير إلى عدم استطاعته الدخول في هكذا استثمار، لأن له أجندة خاصة في آسيا مستندة إلى مجموعة من الارتباطات تبلغ 56,6 مليار دولار. هذا إضافة إلى أن مجموعة البنك الدولي تقوم بتوجيه قروضها إلى 14 نشاطاً قطاعياً، تمثل البنية التحتية منها 3 قطاعات فقط.
أعلن عن تأسيس بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية (AIIB) Asian Infrastructure Investment) (Bank في 24/10/2014، ومركزه الرئيسي بكين، برأس مال وقدرة 50 مليار دولار، يمكن أن يصل إلى 100 مليار دولار أمريكي. ومدير البنك الصيني جين لي تشون ان.
وقد كُتب عن البنك الجديد في افتتاحية الغارديان عام 2014، والدور الذي سيلعبه في التنمية لمنطقة آسيا ذات الاقتصاديات النامية. وقد وقعت 21 دولة على مذكرة التفاهم بإنشاء البنك. الدول الآسيوية التي وافقت على إنشاء هذا البنك حتى تاريخ 2/4/2015، بلغ عددها (26) دولة، منها خمس دول عربية (السعودية/ قطر/ عُمان/ الأردن/ الكويت). هذا إلى جانب، دول أوروبية (بريطانيا/ فرنسا/ ألمانيا/ إيطاليا/ لكسمبورج/هولندا)، ونيوزيلندا.
البنك (AIIB)، هو المنافس المحتمل للبنك الدولي الذي تُوجّه دفته الولايات المتحدة الأمريكية. ينظر الأمريكيون بعين القلق إلى سعي الصين إلى تعزيز هيمنتها ونفوذها في المنطقة، وسعي الصين إلى إرساء نظام اقتصادي موازٍ، يمكنه أن يقوض ليس البنك الدولي ومجموعته فحسب، بل ربما حتى «بريتون وودز»، الذي ساهم في ارساء النظام الاقتصادي العالمي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. – يتبع..