- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/ahali -

فصل جديد من التنازلات المجانية

[بقلم / معتصم حمادة]

مع بدء تحركات إدارة ترامب، لإحياء العملية التفاوضية، افتتحت القيادة الفلسطينية الرسمية فصلاً جديداً من فصول تنازلاتها المجانية، في عملية تسديد فواتير مسبقة مقابل وعود قد تأتي، وقد لا تأتي، مكررة في ذلك من التجارب الفاشلة التي خاضتها على مدى حوالي ربع قرن مع الإدارات الأميركية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
مع إدارة ترامب قدمت القيادة الرسمية سلسلة تنازلات سنستعرض في هذه العجالة ثلاثة منها.
• التنازل الأول هو قبولها بتقسيم الإستيطان إلى قسمين (وهميين) الأول الإستيطان الذي ليس من شأنه أن يخلق وقائع ميدانية تفرض نفسها على نتائج العملية التفاوضية. والثاني هو الذي يخلق هذه الوقائع.
وبالتالي لا مشكلة مع النوع الأول، ولا مانع أن يتواصل النوع الأول من هذا الإستيطان في القدس وأنحاء الضفة الفلسطينية. والمقصود بهذا النوع من الإستيطان، الذي تخلت القيادة الرسمية عن المطالبة بوقفه، هو الذي يقوم على توسيع المستوطنات القائمة الحالية، خاصة في الكتل الإستيطانية الكبرى، بإعتبارها، في إطار الإتفاق المسبق على تبادل الأراضي عبر الحدود، مرشحة للضم لإسرائيل. وبالتالي يصبح الإعتراض فقط على بناء مستوطنات جديدة خارج ما هو قائم منها حالياً.
غير أن الحكومة الإسرائيلية إستدركت هذا الأمر والتفت عليه، حين أقر الكنيست قانون «تبييض البؤر الإستيطانية» والتي يبلغ تعدادها حوالي 200 بؤرة، والتي كان تقرير ميتشل قد دعا، عام 2002 إلى تفكيكها، بإعتبارها بؤراً إستيطانية «غير مشروعة». وماطلت إسرائيل في الإلتزام بما جاء في التقرير [مقابل إلتزام تام من الجانب الفلسطيني]، وبموجب القانون الجديد، أصبحت هذه البؤر «مشروعة»، وأصبحت بالتالي جزءاً من المستوطنات القائمة، وأصبح توسيعها، والربط بينها وبين باقي المستوطنات، في إطار خطة توسع كبرى، جزءاً من أعمال توسيع المستوطنات المرشحة للضم. أي عملياً، أصبحت كل مشاريع المستوطنات عملاً مشروعاً، ولا إعتراض عملياً عليه، ما دامت هذه المستوطنات مرشحة للضم لإسرائيل في إطار الإتفاق المسبق على تبادل الأراضي عبر الحدود، والذي قد ينفذ، وقد لا ينفذ وما هو سوى فكرة من شأنها أن تبرر ضم المستوطنات وأن تشرعه، على قاعدة أن ما يتم الإتفاق عليه بين الطرفين، هو التطبيق العملي لقرارات الشرعية. علماً أن قرارات الشرعية، ومنذ العام 1968، وهي تعتبر الإستيطان عملاً غير مشروع، وغير قانوني، وتدعو إلى وقفه وتفكيكه.
* * *
• التنازل الآخر الذي قدمته القيادة الرسمية الفلسطينية، في هذا السياق، وتأكيداً منها على ما يسمى «حسن نواياها»، «وتسهيلاً» منها لإطلاق العملية التفاوضية، هو موافقتها على وقف إجراءاتها لتدويل القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، والتوقف عن التوجه إلى المؤسسات الدولية، والتي كان آخرها منظمة اليونيسكو التي إتخذت قرارات دامغة بشأن القدس وعروبتها. هذا التنازل قدمته القيادة الرسمية بناء على طلب الإدارة الأميركية، على إعتبار أن مثل هذه التحركات من شأنها أن تشوش على العمليات التحضيرية وأن تعرقل هذه العمليات وأن توفر «ذريعة» للجانب الإسرائيلي، ليعطل هذه التحضيرات. وهكذا تعطلت كل الإجراءات المطلوبة نحو محكمة الجنايات الدولية [بشأن الإستيطان، والأسرى وحصار القطاع] ونحو باقي المؤسسات الدولية. كما تعطلت عمليات إنتساب «دولة فلسطين» إلى المؤسسات الدولية في إطار توسيع دائرة الإعتراف الدولي بها. لذلك لوحظ أنه في خضم معركة الحركة الأسيرة ضد سياسات إدارات السجون الإسرائيلية، إكتفت السلطة الفلسطينية، ودوائر القيادة الرسمية، بالدعم بالبيانات [الباردة والأقل من عادية] وتجاهلت النداءات والمطالب الشعبية والفصائلية بتدويل قضية الأسرى عبر إحالتها إلى مجلس الأمن، وإلى محكمة الجنايات الدولية.
بالمقابل، يلاحظ أنه في الوقت الذي جمدت فيه القيادة الرسمية تحركاتها الدولية الهادفة إلى عزل دولة إسرائيل، كدولة عنصرية، ونزع الشرعية عن الإحتلال، بإعتباره عدواناً على الشعب الفلسطيني وأرضه، وإنتهاكاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، تعمد إسرائيل إلى خوض الحرب الدبلوماسية على الصعيد الدولي ضد الشعب الفلسطيني وضد حقوقه الوطنية المشروعة. فتطالب الولايات المتحدة بالعمل على تنظيم حملة في الأمم المتحدة، لتفكيك وكالة الغوث وإحالة قضية اللاجئين، التي تقلق إسرائيل أكثر من غيرها من القضايا، إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. بكل ما يعنيه هذا من شطب لحق العودة، وبحيث يصبح الحل هو البحث عن «مكان سكن دائم» للاجئ الفلسطيني، بدلاً من العمل على تنفيذ القرار 194 الذي كفل للاجئين حقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948. كما تعمد إسرائيل إلى تنظيم حملة مضادة للدعوات لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية ورصدت في هذا السياق ملايين الدولارات. وأخيراً، وليس آخراً، بدأت تحرض ضد المنظمات الأهلية الفلسطينية التي تحتضن عائلات الأسرى والشهداء والجرحى، والتي تحمل أسماء شهداء، بإعتبارها منظمات أهلية تعمل على إحتضان الإرهاب وتشجيعه، وتطالب الجهات المانحة بحجب التمويل عنها. وقد لا يبدو الأمر غريباً، حين نلاحظ، في الوقت نفسه أن السلطة الفلسطينية نفسها، بدأت تمتنع عن دفع رواتب الأسرى المحررين وعائلات الشهداء في قطاع غزة، في إطار ما يسمى بالعمل على تجفيف «مصادر الإرهاب»، وبناء على مطالب أميركية واضحة وصريحة كشروط مسبقة للتحضير لإستئناف المفاوضات.
* * *
• التنازل الثالث، قد لا يكون بجديد، لكنه يكشف زيف تصريحات القيادة الرسمية الفلسطينية حين تتحدث في المؤتمرات الصحيفة العلنية، في إطار الإستهلاك الشعبي، عن تمسكها بما تسميه حل الدولتين، منها دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وعلى حدود 4حزيران1967.
عبقرية الدوائر التفاوضية الملحقة بالقيادة الرسمية، ولتمرير عجزها عن التصدي للإستيطان، ولتتراجع عن موقفها الداعي إلى وقف الإستيطان كشرط لإستئناف المفاوضات، قبلت بالفكرة الإسرائيلية الأميركية الجهنمية، الداعية إلى «تبادل الأراضي المتفق عليه» عبر الحدود، لتوفير الحدود «الآمنة» لإسرائيل. والمسألة، ليست كما يبدو، متعلقة بالأمن العسكري الذي تبحث عنه إسرائيل، بل تتعلق بالأمن المائي والغذائي والزراعي وغيرها.
لذلك ما تريد أن تستولي عليه إسرائيل من الأرض المحتلة عام67، هي تلك الأراضي «الأفضل» في الضفة [الكتل الإستيطانية، مناطق الآبار الجوفية، شاطئ البحر الميت ــــــ المناطق الواسعة من المنطقة (ج) بما فيها منطقة غور الأردن].
وفي إطار الإلتفاف على الذات، والتدليس السياسي، والكذب على الرأي العام، وخداعه، إخترعت الدوائر التفاوضية فكرة بديلة تقول بمبدأ إسترداد أرض تساوي مساحتها مساحة الأرض التي إحتلت في الخامس من حزيران. وكأن المسألة تقاس بالأمتار أو الكيلو مترات المربعة، مع المساواة بين أرض وأخرى، علماً أن قانون الجغرافيا يؤكد إستحالة أن تساوي قطعة أرض أخرى ولو بذات المساحة. فهناك الخصوبة، والمكان الإستراتيجي، والتربة والبنية وغيرها. أما في التطبيق على الأرض، فهذا من شأنه أن يطرح تساؤلات: هل نتخلى عن القدس، مقابل قطعة أرض بديلة تساوي مساحتها مساحة القدس. هل نتخلى عن غور الأردن، عن شاطئ البحر الميت، عن مناطق الآبار الجوفية، عن المناطق الحدودية مع الأردن، وقد تمتد الأسئلة، لأن المعادلة التي يقبل بها المفاوض الفلسطيني، بديلاً لدولة فلسطينية على حدود 4حزيران، معادلة مفخخة، مليئة بالألغام، والمرشحة لأن تنفجر بين أيدي المفاوض الفلسطيني نفسه.