- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/ahali -

في الثقافة الإعلامية والتربية الإعلامية

الدكتور ذوقان عبيدات
لو سألنا شخصاً ما عن وظيفة الإعلام لأجاب بأنها نقل الحقيقة والتثقيف والترفيه. فالإعلام استثمار يهدف الى التأثير في الآخرين وصياغة اتجاهاتهم وربما افكارهم. ومن هنا يلتقي الإعلام مع اساس العملية التربوية وهو بناء معارف واتجاهات ايجابية تمكن الفرد من اصدار أحكام على ما يرى ويسمع. ان الرسائل الإعلامية غالباً ما توجه الى الصغار، خصوصا فيما يسمى الإعلان والدعاية، فتثير فضولهم ودوافعهم للاستجابة للإعلان.
والتعليم الذي يستند الى الحقائق وينقلها الى اطفالنا في المدارس هو إعلان قدّمه الكبار ليتبناه الصغار، وبهذا يتشابه مع إعلان الاغذية السريعة والحلويات وأماكن الترفيه وادواته. هذه الحقائق والمعارف التي يتعرض لها طلابنا في المدارس تحتاج الى تفكير ناقد لفحصها وتأملها وتقييمها ومعرفة الدوافع وراءها. فحين يقرأ الطالب نصاً عن الحب او الشرف او المرأة، او حين يستمع الى قصة عن الكرم او البخل او العطاء والرحمة، فإن عليه ان يثير أسئلة مثل:
من قدم هذا النص؟ ما محتواه؟ ما الرسائل الظاهرة والمخفية؟ ولماذا ومتى وأين؟ إن عليه تفحص النص والشك فيه والتعرف على ظروفه، فكما يقول فرانك بيكر مؤلف كتاب “الثقافة الإعلامية في سنوات الدراسة من الروضة حتى الثاني عشر”، والذي ترجمه الاستاذ الكبير بلال جيوسي الى العربية العام 2013، إن القراءة والكتابة والحساب وسائر المواد لم تعد كافية لطلابنا في القرن الحادي والعشرين. وإن صغارنا [يحتاجون ايضاً ثقافةإعلامية تستحق ان تحتل مكانة مرموقة في المناهج المدرسية وبرامج اعداد المعلمين (ص18) فما المقصود بالثقافة الإعلامية؟ والتربية الإعلامية؟
إن الثقافة الإعلامية تعني الحصول على معارف مثل متى وأين وماذا ولماذا؟ لكن التربية الإعلامية هي:
– تنمية مهارات التفكير الاساسي والتفكير الناقد ليكون الطالب قادراً على مواجهة ما يتلقى يومياً من اعلام ودعايات واعلانات واشاعات وفبركات.
– اكساب طلابنا مهارات صياغة الرسالة الإعلامية ومؤثراتها من صوت وصورة ولون ولغة جسد، وتكرار يقتلع مقاومات الإطفال. هذه المهارات ليست وحدها كافية لاتخاذ موقف، ولكن تدفع بالاطفال الى فهم الرسالة الإعلامية، وفهم الرسالة الإعلامية يعني تفسيرها، ومعرفة دوافعها وغايات منتجيها، وهي خطوة اولى لاتخاذ موقف حتما.
– تحصين الأطفال لمواجهة قيم العولمة، من خلال امتلاكهم مهارات التحليل، وفهم الرسالة الإعلامية، والتمييز بين ما هو إيجابي وغير ذلك.
إن نقطة الالتقاء بين الإعلام والمنهج المدرسي هي:
إذا كانت المناهج المدرسية تستند أساساً الى سيكولوجية المتعلم وحاجاته الأساسية، فأي حاجة أكثر إلحاحاً من حاجته الى فهم الرسائل الغازية له ولقيمه يومياً؟ وأي الحاجات اكثر صلة بحياته اليومية من حاجات تدعيم مهاراته لنقد وتمحيص الرسائل الإعلامية التي تغزوه: غذاء ولبساً وصحة وأدوات وقيماً…!!
وعودة الى التربية الإعلامية، كما عرفتها وزارة التربية في كندا منذ نهاية القرن العشرين، فانها مساعدة الطلبة على تطوير فهم مستنير ناقد لأدوات الاعلام، والاستمتاع بكيفية عملها وكيفية بنائها للرسالة وانتاجها للمعنى. ان المعلمين مطالبون باستيعاب الثقافة الإعلامية، فلا تدرس دون موثرات بصرية أو سمعية أو حركية. وهذا ما دفع مربين امثال (جورج لوكاس، 2004) إلى القول “إذا لم يعلم الطلبة لغة الصوت والصورة، فاننا نعتبرهم أميين تماماً، كما لو تركوا المدرسة دون معرفة القراءة والكتابة”، فالثقافة الإعلامية ضرورة للمدرس والطالب بوصفها مهارات جديدة يحتاج الجميع الى اتقانها. وهي مهارات تحليل الرسالة الإعلامية ومهارات انتاجها.
والتربية الإعلامية أكثر من ذلك، إنها:
– معارف ومهارات وقيم. – فهم طريقة عمل الاعلام. – الاعتراف بقوة الاعلام وتأثيره. – الوصول الى الاعلام. – المشاهدة الناقدة للاعلام.
فالمسألة ليست تحدي الاعلام أو مهاجمته او رفضه او الوقاية مما لا تتفق معه فيه. إنها تحليل ووعي وبناء أطر فكرية ونفسية ونقدية تمكن الطالب ان لا يكون فريسة سهلة لخبر او صورة او مسلمة.

أسئلة مهمة في الثقافة الإعلامية:
الرسالة الإعلامية تستخدم أدوات الابداع، فتدهش الأطفال وتسيطر عليهم، خصوصا اذا استخدمت الرسائل الخفية. ففي الاعلام كما في المنهج: رسائل خفية، تتسرب تلقائيا الى الاطفال، ومن هنا تبدو الاسئلة الآتية مهمة:
– من وضع الرسالة؟ ما التقنيات التي استخدمها؟
– كيف فهمت الرسالة؟ هل هناك فهم موحد لها؟
– ما القيم الخفية في الرسالة؟
– ما الذي ركزت عليه؟ ما الذي بالغت فيه؟
– ما الذي حذف من الرسالة؟
وأخيراً، لماذا هذه الرسالة؟ ومن جمهورها؟ ومتى أنشئت وأين تم تعميمها؟
وقد شاع مؤخراً استخدام الرسالة الإعلامية وتحديد أهدافها في عدد من الأنظمة التعليمية.
– ففي أحد الأنظمة كان الهدف: تنمية قدرات الأطفال على تحديد تأثير الاعلام على سلوكهم وقراراتهم.
– وفي أنظمة اخرى، كانت الاهداف:
– أن يتفحص الطلاب الطرق التي تستخدمها الرسائل الإعلامية في تسويق بعض المنتجات الضارة.
– أن يقيم الأطفال صورة الجسم المثالية من لبس وغذاء ووزن ليتمكن الطالب من بناء ذاته.
إن علاقة جديدة بين المنهج والاعلام تتبدّى في أن تحصيل الطلاب الدراسي يتناسب عكسياً مع ساعات مشاهدة الاعلام!!
ان زيادة مشاهدة الاعلام ادت الى زيادة في الوزن والبدانة وسوء الهضم وقصور الانتباه. إن الأطباء الناجحين يسألون اليوم مرضاهم عن عدد ساعات مشاهدة التلفزيون كما يسألونهم تماماً عن الأغذية التي تناولوها!! لن أسرف في تحديد أثر الاعلام. فقد ننتخب نائباً او نعجب برئيس على أساس مظهره في الاعلان او صورته في الشوارع. والثقافة الإعلامية هي التي تكشف زيف الاعلان وأجنداته الخفية.

كيف ندرس الثقافة الإعلامية؟
علينا أن ننفي أولاً اضافة مادة دراسية خاصة بعنوان الثقافة الإعلامية، لأسباب عديدة في مقدمتها حجم المنهج وكثرة المواد والأولويات ووقت الطالب.
إذن ما العمل؟ إن الثقافة الإعلامية يجب أن تتسلّل للمنهج فيما يأتي:
– عبر مسائل الحساب، كأن يكون موضوع المسألة، مثلاً: شاهد خمسون طالباً إعلانات عن الغذاء السريع. وفي الفحص الطبي تبيّن أن ثلاثين منهم يعانون من زيادة الوزن.. الخ.
– عبر نصوص اللغة، كأن نقدم نصاً عن نقد لإعلان.
– عبر التربية الوطنية، كأن نقول انقد النص الآتي: حقوق المرأة ثقافة غربية…. الخ.
– عبر دروس التاريخ، كأن تقول اثر الاعلام في الدفاع عن غزة، او في معركة عمورية.
– عبر دروس المنطق التي غابت عن مدارسنا، وتركت نهباً لعدم المنطق.
إذن! لا مزيد من الأعباء على الجدول المدرسي أو المعلم أو الطالب، فلا نستطيع – وليس ضروريا – ان نفرد مادة لكل موضوع، بل بالعكس نحتاج الى زعزعة المواد الدراسية الحالية، وتضييق عددها وزيادة افقها.
ونجمل في نقاط التقاء المنهج المدرسي مع الثقافة الإعلامية بما يأتي:
– الثقافة الإعلامية هي الرجوع الى مصادر متعددة للتأكد من وضوح الرسالة وربما ظروفها وصدقها.
– الثقافة الإعلامية هي نقد افتراضات سيطرت علينا وعلى طلابنا وأصبحت صالحة لكل زمان ومكان دون فحص.
– الكشف عما وراء الرسالة الإعلامية من قيم، نحن نقرأ دعاية لمرشح يقول: المزارع، الدكتور… ماذا تعني كلمة مزارع؟ ولمن تم توجيهها؟ وكذلك دكتور.
– الكشف عن الزيف الاحصائي، فحين يقول الاعلام 90 ٪ من العباقرة استخدموا هذا المنتج!! قد يكون صحيحاً. ولكن ربما أكثر من 90 ٪ من متوسطي الذكاء استخدموا نفس المنتج.
– قدرة الطالب على إدراك ما تم حذفه في الإعلان. ففي إعلان ما قد يركز علي مزايا منتج ما، لكنه لا يتحدث عن اضرار جانبية لهذا المنتج، او يتحدث عن فضائل حلويات ما دون أن يذكر سعرها مثلاً.
– قدرة الطالب على فهم السياق الثقافي والاجتماعي في الاعلان، ففي إعلان عن اللباس الاسلامي مثلاً، يربط الطالب بين سيادة اتجاهات دينية تقبل الاعلان دون مناقشة.
ان الثقافة الإعلامية لا تدرب الطلاب على فهم الرسائل الإعلامية فحسب بل:
تنمي قدرتهم على طرح الأسئلة، وليس مجرد طرح الأسئلة بل طرح الأسئلة الصحيحة.
ان الثقافة الإعلامية لا تدرب الطلاب على كيف يشاهدون التلفزيون، بل على مشاهدة التلفزيون بشكل ناقد.
تخيلوا معي طالبة تشاهد حلقة تلفزيونية، ثم تكتب تقريراً عن الملابس في هذه الحلقة او عن علاقة المرأة بالرجل او الاماكن السياحية او حتى الحشو غير الضروري!!!
إن المطلوب من مناهج التعليم، توجيه الطلبة لممارسة عمليات عقلية عليا مثل التركيب والتقييم واتخاذ القرار والشك والابداع. وهذا يأتي عن طريق طرح الاسئلة والشك المنهجي والنقد والتمحيص، فعلى قمة هرم التفكير نجد أفعالاً مثل: يبتكر، يؤلف، يبني، يصمم، ينتج، يتحقق، يرصد، يبحث ويحاور.
ان طلابنا انتقلوا من وسائط الاعلام التقليدية – تلفزيون – الى اعلام صديق وهو الحواسيب.
ان معدل قضاء الطلبة من اعمار 8-18 سنة على وسائل الاعلام كلها 7 ساعات ونصف تقريباً يومياً. وهذا وقت يجدر بالتربية استثماره لتنمية عقلية ناقدة. ومرة اخرى نحتاج في مناهجنا الى:
نشاط تحليلي، تفكيكي غير موجود حالياً، فأي مسلمة يمكن أن نثير حولها عشرات الاسئلة قبل قبولها او رفضها، وأي خبر اعلامي كذلك، ولتقدم مثالاً عن خبر “في اشتباك بين قوات التحالف وبين الطرف الآخر، تم قتل عشرين”.
ان هذا الخبر يمكن ان يفهم من خلال الأسئلة الآتية: – ما سياسة القناة التلفزيونية؟ -كم قتيلاً من الطرف الآخر؟ – ما أثر الخبر على انصار الطرف الآخر؟ – ما المحطات التي نشرته؟ التي أهملته؟ – ماذا قالت محطات محايدة عن الموضوع؟
– أين ومتى؟ هذه أسئلة مشروعة يجب أن تثار حتى نفهم الخبر.
نحن مجتمع أمي بصرياً (ديف غراي)، لا نعرف ان الصورة نص مجرد، يجب ان تقرأ بعناية، وأن لا معنى للصورة دون قراءة، وفهم الصورة يعني فهم ألوانها، ورموزها وتاريخها ودرجة إضاءتها. فالطالب الناجح هو طالب ناشط، ناقد، يفهم لغة الإعلام من صور ونص.