- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/ahali -

بالتزامن مع الذكرى السادسة للثورة التونسية.. مؤشرات متباينة لمسار «المصاعب والأمل»!

فؤاد محجوب

في مؤشرين متناقضين تماماً لمسار الأوضاع في تونس ما بعد «ثورة الياسمين»، تواصلت من جهة جلسات الاستماع العلنية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في العهود التونسية السابقة، التي تنظمّها «هيئة الحقيقة والكرامة»، بالتزامن مع ذكرى احراق محمد البوعزيزي نفسه في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، وهي الحادثة التي أطلقت شرارة الثورة، وأدّت إلى سقوط نظام زين العابدين بن علي، في حين كان العاطلون عن العمل، من جهة أخرى، يواصلون احتجاجاتهم للمطالبة بفرص عمل!.
واعتبرت الهيئة المكلفة تنفيذ العدالة الانتقالية في تونس أن الهدف من جلسات الاستماع العلنية لضحايا الانتهاكات هو «تفكيك نظام الاستبداد وإصلاح المؤسسات وترسيخ ثقافة عدم الإفلات من العقاب». وهي أنشئت في 2013، وكلفت «كشف حقيقة انتهاكات حقوق الانسان» في تونس منذ الأول من تموز/ يوليو 1955، أي بعد نحو شهر من حصول تونس على الحكم الذاتي من الاستعمار الفرنسي، وحتى 31 ديسمبر 2013.
آراء متباينة
وفي الواقع، تتباين الآراء ووجهات النظر بين أطياف الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني حول حصيلة ومآل الأوضاع في تونس بعد ست سنوات من عمر الثورة، فمنهم من يرى أن التونسيين لم يجنوا خلالها سوى الأحلام والوعود والمشاريع المؤجلة، بل وثمة من يعتقد أن أزمة البلاد تفاقمت أكثر وزادت حدّتها مع ازدياد منسوب العنف داخل البلاد وخارجها، وضياع نسبة كبيرة من الجيل الشاب الذي أخذ يلتحق بأعتى التنظيمات وحشية وعنفاً في العالم (داعش).
وفي المقابل، هناك من يرى أن الصعوبات التي تشهدها البلاد، وخاصة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، أمر طبيعي في ظل المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها، وما تحفل به عادة من معوقات وصعوبات وعثرات، ولكن الأمل يبقى كبيراً بتجاوزها وتخطيها، في وقت ما زالت «الثورة التونسية» وما حققته على طريق الانتقال الديمقراطي تشكل مثالاً وأنموذجاً يمكن أن يحتذى في بقية بلدان العالم العربي، وخاصة بالمقارنة مع المسارات العنفية والصراعات الدموية التي شهدتها ساحات أخرى فيما يعرف ببلدان «الربيع العربي»!.
والحال، فبعد انتصار الثورة توقع التونسيون أن يزيحوا عن كاهلهم وطأة الدكتاتورية والاستبداد، وأن يكنسوا من مؤسسات دولتهم عفن الفساد الذي لطالما كانت روائحه تزكم الأنوف، وخصوصاً في عهد بن علي وما راج من قصص كثيرة حول زوجة الرئيس وأقربائها من آل الطرابلسي!!.
ظاهرة الفساد والمصاعب السياسية
لكن التونسيين، وبعد ست سنوات من عمر الثورة، ما انفكوا يحارون في أمر الفساد، ولا يعرفون كيف السبيل إلى استئصاله ومحاربته، بل يبدو وكأنّ ظاهرته قد شاعت وتفشّت أكثر من السابق، بعد أن تغلغلت داخل المكونات الاجتماعية والاقتصادية القريبة من السلطة أو المتّصلة بها. حتى أن رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد وقف أمام البرلمان مستسلماً لـ«قدر الفساد»، ومتهماً ضمناً كل النظام السياسي بالتواطؤ فيه معتبراً «أن مكافحة الإرهاب في البلاد أسهل من مكافحة الفساد فيها».
وبصرف النظر عن النقاش الذي يمكن أن يدور بشأن ما حصل في تونس عام 2011، وهل هو «ثورة اجتماعية» بالمعنى التاريخي، أم مجرد «ثورة سياسية» (ديمقراطية) أعادت توزيعاً جديدا للسلطة دون قطيعة مع النظم الاجتماعية التي سبقتها، والتي غذّت وتغذي عالم الأعمال ورأس المال في البلاد. بمعنى أن شبكات المستفيدين والفساد قديمة، وتتمتع بفاعلية تتيح لها الحركة بمرونة وربط شرايينها وقنواتها بأيّة سلطة تتشكل في البلاد.
نقول بصرف النظر عن ذلك، فلاريب أنّ المصاعب التي شهدها وما زال يشهدها الوضع في تونس على الصعيد السياسي كثيرة وجلية، بدءاً من حكم «الترويكا» وما خلّفه من تداعيات على الداخل التونسي، وخصوصاً بعد اغتيال القياديين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، اللذين وجهت فيهما الاتهامات لمجموعات تدعمها أو تتواطأ معها حركة النهضة (الإسلامية)، وأقلّه، تغضّ الطرف عن أنشطتها. ومروراً بانتخابات العام 2014 التي فازت فيها حركة نداء تونس، والتي عادت لتتحالف مع حركة النهضة، بعد اتفاق الشيخين، السبسي والغنوشي، في باريس. وصولاً إلى الأزمة التي دخلها حزب «نداء تونس» بعد وصوله إلى الحكم، وما يشهده حتى هذه اللحظة من انقسامات واستقالات لأبرز قيادييه.
وقبل أشهر قليلة أسقطت الأحزاب التونسية المشاركة في الحكم حكومة الحبيب الصيد، معترفة بفشلها وفشل هذه الحكومة في مواجهة أزمات الاقتصاد والفساد والأمن والاستقرار. ثم جاءت هذه الأحزاب ذاتها بيوسف الشاهد على رأس حكومة هي الثامنة منذ إسقاط بن علي.
من المسؤول؟
ولعلّ المفارقة تكمن في أن حكومات الترويكا كانت تتهم معارضيها بعرقلة عملها وإثارة الفوضى، و«وضع العصا في العجلة» لتعطيل مشاريعها، وهو نفس ما ردّدته حكومة الصيد، ومن قبلها حكومة مهدي جمعة، وهو نفس ما تردّده اليوم حكومة الشاهد!. بمعنى أن الحكومات ترحل ويجري تغييرها من دون أن يعرف أحد، على وجه الدقة، لماذا فشلت؟، وما ومن الذي أفشلها بالضبط؟!. ومن ثمّ ما الذي يضمن نجاح الحكومة التي خلفتها؟، والتي اختارتها الأطراف نفسها التي كانت تدعم سابقتها؟!.
ويعوّل المتفائلون الآن على رئيس الحكومة الشاب، منطلقين من أنه ينتمي إلى جيل يعرف شروط العصر ويجيد استخدام أدواته ولم يتلوّث بالملفات التي يختلط حابلها بنابل «البزنس والسياسة». في حين يأخذ المعترضون والمتحفظون عليه صغر سنه وطراوة عوده في السياسة، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى شخصية قوية لها باع طويل وخبرة ومراس في هذا المضمار. ويتذكّر المتحفّظون أن الرئيس الباجي قائد السبسي سبق وأن عيّن الشاهد رئيسا للجنة التي أنيط بها حلّ أزمة حزب نداء تونس وفشل في ذلك، متسائلين كيف للرجل الذي أخفق في حلّ أزمة حزب أن ينجح في حل أزمة بلد؟
كما يلفت المعترضون الانتباه أيضاًَ إلى القرابة التي تصل الشاهد برئيس الجمهورية، ليحذروا من حكم العائلة والسهر على مصالح اللوبيات المرتبطة بأهل السلطة. فيما ذهبت أصوات أخرى محذرةً من مساعي التوريث التي يشتبه بأن الرئيس السبسي يحضّرها لنجله.
وتلاحظ أحزاب تونسية معارضة أن التحالف القائم أساساً بين نداء تونس وحركة النهضة هو الذي يتحكم بتفاصيل المشهد السياسي في البلاد، وهو الذي ينتج ويعيد انتاج رؤساء الحكومات، على نحو يكونون فيه طيّعين بين يدي هذا «التحالف» ومنفذين لأجنداته. وهو ما يمكن أن يثقل من حركة رئيس الحكومة تجاه أي ملفّ من الملفات، وخصوصاً تلك المتعلقة منها بالفساد.
ضبابية ولكن؟
وسط هذه الضبابية التي تلف المشهد السياسي في تونس، يبدو في نظر البعض أنه «لم يعد للثورة من معنى»، وأن «التونسيين سئموا حتى مجرد الحديث عن هذه المناسبة وطرق تداولها في وسائل الإعلام»!. ولكن المتابع لمسار الأحداث من الخارج ما فتئ يعلق آمالاً كبيرة على تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، بوصفها استثناءً ومثالاً للتجربة الناجحة، ويرى أن هذا البلد الصغير يواجه تحديات الإرهاب، فيما الآلاف من أبنائه يقاتلون في صفوف «التنظيمات الارهابية» في غير مكان من العالم. كما يصطدم بتحديات اقتصادية كبرى تتطلب تكاتفاً من كل التونسيين، فضلاً عن أوجه الدعم والمساندة العالمية التي يحتاجها، كيما يكون بإمكانه أن يترجم أحلامه إلى حقيقة.
وإلى ذلك، فقد تجنّبت أغلب التيارات السياسية الصدام فيما بينها، وذهبت باتجاه الحوار الذي استحق رعاتُه جائزة نوبل للسلام. كما وضعت لنفسها عناوين عامة للتوافق الوطني حملت اسم «وثيقة قرطاج»، وقعتها تسعة أحزاب وثلاث منظمات نقابية (الاتحاد التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين)، على أن تشكّل السقف المواكب للعمل الحكومي، بما يضمن أن يبقى الجدل دائراً داخل «الشرعية السياسية»، على غرار ما هو معمول به في التجارب الديمقراطية العريقة.
وعليه، فإن باب الأمل، مازال مفتوحاً أمام التونسيين للنسج على منوال تجارب أخرى ناجحة، اختارت العمل والحوار ركناً أساسياً في توجهاتها، متجنبّةً التصادم والإقصاء، في وقت تحاول فيه حركة النهضة الابتعاد عن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، والاستفادة من التجارب الفاشلة لمثيلاتها من حركات وأحزاب تنتمي إلى الإسلام السياسي وجماعة الإخوان، وخاصة لجهة التفكير في مشاريع الهيمنة السياسية على الحكم في المنطقة، وكلّ ذلك يصبّ في مصلحة التونسيين الذين يملكون كل مقومات النجاح، والقدرة على تخييب أمل المعوّلين على فشل تجربتهم أيضاً، وما أكثرهم؟!.