- الأهالي - https://www.hashd-ahali.org/main/ahali -

الكيد لشعب فلسطين باسم التضامن .. بقلم – عبد الاله بلقزيز

قبل سنوات خَلَت، ولم تكن “الثورات” العربية قد أمطرت “الربيع العربي” الأعجف بعدُ، أجاب أحد فقهاء اليوم عن سؤال أحد سائليه، في برنامجه التلفزي الديني الأسبوعي، في موضوع زيارة مناطق السلطة الفلسطينية، بما يفيد أن الزيارة غير جائزة لأنها تُسلّم باحتلال “إسرائيل” المناطق الفلسطينية، وتمثّل شكلاً ما من التطبيع، ولو غير المباشر، مع العدو الصهيوني . وكان معروفاً عن هذا الفقيه أنه يعارض، على الأقل في ذلك الحين، “اتفاق أوسلو” سيئ الذكر، وهو ما كان يدفعه باستمرار، في برنامجه التلفزيوني ذاك كما في خطب الجمعة، في البلد الذي يقيم فيه، إلى عدم تفويت أية فرصة للقدْح في مواقف السلطة الفلسطينية، والتشنيع عليها، واتهامها بالتفريط بحقوق الشعب والأمة في أرض لم يكن يكتفي باعتباره إياها أرض شعب فقط، بل ويزيد على ذلك بالقول إنها وقفٌ إسلامي لا سبيل إلى تفويته .

الفقيه هذا زار غزة، والتقى أركان حكومتها من دون أن يبدو عليه أدنى حرج، وكأن غزة ليست من مناطق السلطة! . . وكأن حكومتها ليست من مؤسسات “أوسلو”! وكأنها دولة مستقلة ذات سيادة! وكأن حدودها تخضع لسيادة القوة السياسية التي تدير القطاع! وكان الفقيه الزائر قد مهّد لانقلابه منذ سنوات: حين بدأ يخفّف من نقده ل “اتفاق أوسلو”، في أواسط العقد الماضي، لأن من “بركات” هذا الاتفاق “المشؤوم” أن “حماس” حازت أغلبية في “المجلس التشريعي” وشكلت حكومة (والمجلس والحكومة من المؤسسات التي نص عليها “اتفاق أوسلو”)، فجاز السكوت عليه بالتبِعة! ثم لم يلبث أنْ أتْبَعَ ذلك باختصار الشأن الفلسطيني في غزة منذ استيلاء “حماس” على السلطة فيها بالقوة قبل ثماني سنوات، وخاصة منذ بدأ القطاع يتعرض للعدوان والحصار بدءاً من العام 2009 .

ولقد يكون مفهوماً – من دون أن يكون مشروعاً – أن يَغُضّ الفقيه الطرف عن “اتفاق أوسلو” المشؤوم، ما دامت حركة “حماس” – وهو مرجعها الديني أو الفقهي – قد تصالحت هي نفسها مع ذلك الاتفاق، وقبلت به عمليّاً إطاراً لإدارة الأمور في المناطق المحتلة العام ،67 فدخلت في مؤسساته من “مجلس تشريعي” و”حكومة”، ثم بدأت تنسى ميثاقها وبرنامجها لتحرير الوطن من النهر إلى البحر، لتتحدث عن دولة مستقلة في مناطق ال ،67 وتنسى تراثها عن الكفاح المسلّح أو الجهاد لتقبل اتفاقات الهدنة مع العدو . . إلخ . كما قد يكون مفهوماً – ومرة أخرى من دون أن يكون مشروعاً- أن ينصرف الفقيه إلى نصرة غزة لا الضفة الغربية، لأن في الأولى سلطة تعجبه وفي الثانية سلطة لا تعجبه . غير أن العَصِي على الفهم أن يزور غزة بينما فلسطين كلها تحت الاحتلال، وفتاوى فضيلته مازالت ترنّ في الآذان، كما لو أن الدين يحلّل ما يُحِلّه الفقيه، ويحرّم ما تُحرّمه فضيلته لا العكس .

والحق أن هذه المشكلة ليست مشكلة الشيخ الداعية فحسب، فليس هو أول من زار غزة ولن يكون الأخير قطعاً، لكنّه وفّر غطاء فقهياً وشرعية أخلاقية لكل من يريدون الإساءة إلى قضية فلسطين بدعوى نصرة شعبها ومؤازرة مؤسساته “الوطنية” . وظنّي أن زيارة غزة في جملة ما يُساء به، اليوم، إلى قضية فلسطين وشعبها . وليس ذلك لأن غزة لا تستحق التضامن – معاذ الله- ولكن التضامن الذي تحتاج إليه غزة هو التضامن مع كل فلسطين لا مع بعض فلسطين . إنها تحتاج إلى تضامن كامل وشامل لا إلى تضامنٍ انتقائي وفئوي يُغلّب الزبونية والحزبية على المصلحة العامة للشعب الفلسطيني . والتضامن هذا لا يمكن أن يكون في موقع من فلسطين دون آخر، وخاصة حينما تتواجه المواقع والشرعيات فيها: كما هي متواجهة اليوم، بل منذ سنين خَلَت، ومقصِدُنا من هذا إلى القول، إنّ فكرة التضامن ينبغي أن تكون مجردة من أي غرض حزبي أو فئوي حتى تليق بها صفة التضامن، وإلا فهي مُغْرِضة لا يُبْتَغى بها وجهُ الله ولا نصرةُ قضيةٍ ولا يخزنون، فضلاً عن أن للتضامن أشكالاً عدة أَفْعَلَ وأثمرَ من زياراتٍ على شرعيتها خلاف .

ورب “تضامنٍ” يكون فتنةً أو وقودَ فتنة . وأحسب أن زيارة الفقيه وأضرابه هي من هذا القبيل، إذ من نافلة القول أن بين حكام غزة وحكام الضفة شنآناً وتباغضاً منذ زمن، وأن الانقسام في جسم الحركة السياسية الفصائلية سرى مفعولاً، في المجتمع الفلسطيني، فبات انقساماً اجتماعياً وجغرافياً ومؤسسياً، وأن أي “متضامن” عربي أو مسلم يمحض فريقاً بعينه الولاء، وينفحه دعماً وتأييداً، إنما يكرّس الانقسام ذاك حتى لو لم يقصد، وأن أَجَل خدمة قد يسديها “المتضامنون” أن لا يمارسوا، اليوم، هذا النوع المغرض والمسموم من “التضامن”، مكتفين بالدعوة إلى وحدة شعب فلسطين وأرضه ومؤسساته، وبالعمل الصادق على تيسير أسبابها . أما إذا كان “لا بد” من الزيارات، فليزر الزائرون غزة والضفة معاً حتى ترتفع شبهة الاغْتراض عن زياراتهم،فَيُنْظَرَ إليها كفعل سياسي متوازن ومصروف لخدمة قضية شعب برمته .

بقي أن ننبه إلى أمر لا يخلو الإعراض عن رؤيته من دلالة: إن تجنّب زوار غزة الذهاب إلى الضفة الغربية لا يعبر عن انحياز إلى الحركة السياسية التي تسيطر على القطاع فحسب، بل تعبر عن موقف سلبي من مؤسسات الشعب الفلسطيني ومرجعيات الشرعية . نعم في رام الله حكومة غير شرعية وغير دستورية كالتي توجد في غزة، فهما معاً فُرِضَتا بالقوة: القوة السياسية في رام الله، والقوة العسكرية في غزة . غير أن الفارق يكمن في أن الضفة الغربية مقر مرجعيتين: مرجعية ثورية تمثيلية جامعة اسمها منظمة التحرير، ومرجعية سياسية عامة اسمها السلطة الفلسطينية . إن “فتح” مجرد فريق سياسي في المرجعيتين وإن كان الأقوى . أما في غزة ف “حماس” لا تمثل إلا جمهورها الحزبي، ولا تملك أن تتحدث باسم الشعب الفلسطيني إلا من خلال أطره الشرعية، ومن يخاطبونها بصفتها ممثلاً للشعب، يقترفون جرماً في حق هذا الشعب .